القلق والخوف وقوة الصبر، الحنان والعنفوان وعزّة النفس التي لا يمكن ان تنكسر لأحد... كل هذه أحساسيس ومشاعر لمسناها في الأداء الرائع للفنان السوري القدير عباس النوري من خلال شخصية "أبو عصام" "حكيم الحارة".... يرى ان بعض الأعمال الدرامية التي قدمت هذا العام تجاوزت "باب الحارة" تقنياً وإنتاجياً، لكنها لم تتمكن من التفوقّ عليه لجهة الإنتشار والإنجذاب الجماهيري الغريب الذي حققه المسلسل. هو يرى ان أغلب الانتقادات التي وجهت للعمل نابعة من زوايا سياسية ضيقة وموجهة ضد شخص المخرج بسام الملا. أما عن شخصية "أبو عصام" فيقول النوري انه يشبه والده التسعيني الى حد كبير، ومنه استمد الحنان والقسوة والطيبة في آن واحد. "لها" التقته في حوار شامل هذه أبرز تفاصيله..
نسألك بداية عن الدور الرائع الذي أديته في "باب الحارة"، البعض اعتبر انك قدمت الشخصية الرئيسية أي دور البطولة فيه، بينما آخرون رأوا ان العمل قائم على بطولات مشتركة. أنت ماذا تقول؟
في صيغة المسلسل حكايات عدة وليس حكاية واحدة، وهي طبعاً قضايا متداخلة. لكن قصة "أبو عصام" (دوري في المسلسل) كانت الأبرز والأوسع مساحة، وبالتالي كانت باقي القصص في الحارة تصبّ ضمن حكاية "أبو عصام" والمصاعب التي تعرّض لها كمثل الطلاق، حتى ان البلد بأكمله تدخل في طلاق "أبو عصام" الذي ترك أثره الواضح على كل الشخصيات والحالات الأخرى وفي الأحداث التي عاشتها هذه الشخصيات. ولكن بطبيعة الحال كان حلّ القضية الوطنية الكبرى هو الأهم والأشمل، وبالتالي صارت كل الحلول الأخرى بسيطة امام قضية الاحتلال والمقاومة أي قضية الوطن. المسلسل عبارة عن قصص تشبه أمواج البحر في مدّها وجزرها، واحدة تبرز وأخرى تبهت، أما البحر نفسه فكان "أبو عصام".
هذا النجاح الاستثنائي الذي حققه "باب الحارة"، الى اي مدى كان متوقعاً؟
صحيح ان العمل نجح بشكل استثنائي مما يدفع المرء بالفعل الى التساؤل عن الأسباب والتوقعات خصوصاً انه عرض في شهر رمضان المبارك. ولو قارناه بمسلسلات درامية أخرى لوجدنا انها ربما تتفوق على "باب الحارة" لناحية المستويين التقني والانتاجي مثلاً. لكن نظرتي هذه لا تقلل طبعاً من أهمية ما ورد في "باب الحارة" الذي قدم لي درساً مهما، هو انه في رمضان لا بدّ من طرح أعمال شبيهة بحياة الناس اليومية، تضفي إليها الدفء والحميمية وتثير في نفوس الناس الكثير من القيم مثل صلة الرحم والأخوة والأمانة والشرف وهي أمور نشعر بها أكثر في رمضان، وأعتبرها أعمدة يقوم عليها العالم العربي.
"باب الحارة" علّمني انه لا بدّ من البساطة خصوصاً في رمضان، لهذا أقول إني قد اقدم عملاً تاريخياً على سبيل المثال وبموازنة ضخمة جداً من حيث الانتاج وتصوير المعارك والازياء... وقد يحمل أهم رسالة فنية وبتقنيات عالمية ولكنّ عملاً مثل "باب الحارة" قد يطغى على فيلم "عمر المختار" أو "الرسالة" لأنه حتى في التناول الجدي لكثير من المواضيع، كان هناك طراوة في العمل وبعض الفكاهة حتى في شخصية رجل الدين، فمن قال ان رجل الدين لا يضحك أو لا يتعرض لمواقف محرجة... "باب الحارة" حمل هذا التنويع في تفاصيل حياتنا اليومية.
خلال متابعتنا لشخصية "أبو عصام" كنا نلاحظ في عينيك القلق والخوف والصبر وعزّة النفس في الوقت ذاته لدى رجل من الصعب أن يهزم أو يتنازل عن كرامته... كيف أديت هذا الدور بهذه التفاصيل؟
أنا لست غريباً عن هذه البيئة بل هي في ذاكرتي. لهذا عندما أتلبّسها وأتقمصّها لا يطرأ شيء جديد على شخصيتي بقدر ما تثار أمور في شخصيتي. انا ابن حارة شعبية ولدي لا يزال يحمل هذه المفاهيم والقيم الجميلة وقد بلغ التسعين من عمره ويعيش حتى اليوم مع والدتي (أطال الله بعمرهما) في منزل عربي أي من بيوت الشام القديمة(... لهذا تجدين أن ذاكرتي حاضرة دائماً في هذا النوع من الاعمال، لأن شخصية "أبو عصام" نفسها تشبه شخصية والدي الى حدّ بعيد، وقد استعرت منه كل هذا العنفوان والرجولة وفي الوقت ذاته الحنان والطيبة.
وأذكر بالمناسبة حادثة لا أزال أراها أمام عيني وكأنها حصلت أمس. يوم تزوجت شقيتي الكبرى، كنت لا أزال طفلاً. وكان من عادات أهل الحارات في ذلك الوقت، الا يحضر الآباء أعراس بناتهن، بل يحضرون فقط احتفالات زواج أبنائهم، وبطبيعة الحال كان الأمر مؤلماً لشقيقتي. ولدى انتهاء الاحتفال، تقدّم والدي لتوديع شقيقتي التي يفترض انها ذاهبة للعيش في بيت آخر مستقل ومع عائلة أخرى، والجميع يبكون وأنا أقف الى جانب والدتي وأبكي بالعدوى. نظرت الى والدي الذي كان حاضراً بكل جبروته، فتوجه الى شقيقتي بكلام قاس للغاية لكنه يحمل في مضمونه منتهى الحنان. قال لها : بالعامية "هاي أول خطوة بحياتك التانية، بتمشيها وما بترجعي لعندي، بترجعي لقبرك. خطوتك لعندي الها حلين، انت وجوزك أهلاً وسهلاً فيكن، اما لحالك فقبرك بيكون ناطرك". وهو كان يقصد طبعاً ان يحفزّها نحو تحمّل مسؤولية العائلة التي ستؤسسها وطاعة زوجها. انا تضايقت من والدي من هذا الموقف القاسي، لكن بمجرد خروج شقيقتي من المنزل رأيته كيف بكى. هذا الموقف أثر فيّ الى درجة أني اكتشفت لاحقا ان "أبو عصام" يبدأ من هنا، بمعنى ان هذا الجبروت هو الحنان بحدّ ذاته.
كنت أود ان أسألك ان كنت توافق الرأي ان شخصية "أبو عصام" مثالية الى حد المبالغة، لكنك ذكرت انه يشبه والدك. هل ترى بالفعل ان هذه الشخصيات لا تزال موجودة؟
شخصية "أبو عصام" لم تصل الى درجة المثالية، لكن الجمهور تعاطف معه كثيراً حتى أصبح مثالاً لهم. لكنه ليس مثالياً، بل شخص ارتكب العديد من الأخطاء حتى ولو كانت من باب خدمة الآخرين أو للمصلحة العامة.
وقّعت "إم بي سي" عقداً لتقديم الجزء الثالث من "باب الحارة" حصرياً عبر شاشتها. هل تعتقد ان هذه الحصرية قد تؤثر على نجاح "باب الحارة 3" وانتشاره؟
لا علم لي صراحة بتفاصيل العقد بل قرأت عن الموضوع في الصحافة وليس عندي معلومات لأنه أمر يخص أصحاب الشأن، بينما أنا ممثل فقط أمّا ان أشارك في الجزء الثالث أو لا. لكن بالنسبة الى موضوع الحصرية فقد ظهر في أحدث احصاءات أجريت، ان محطة "إم بي سي" تشاهد اكثر بنسبة 12 ضعفاً من المحطات الأخرى لهذا لا خوف على انتشار الجزء الثالث من "باب الحارة" عندما يعرض على "إم بي سي".
ذكرت عبارة "أم اّ أشارك أو لا أشارك". هل من سبب معين قد يدفعك الى الاعتذار عن "باب الحارة 3"، بمعنى انك قد لا تشارك؟
نعم، ضعف النص.
وكأنك تلمحّ الى وجود ملاحظات ومآخذ خاصة بك على النصين السابقين؟
بطبيعة الحال كان لي رأيي. منذ ان بدأ تعاوني مع المخرج بسام الملا من "أيام شامية" و"الصالحية" وصولاً الى "باب الحارة"، لم أشعر مرة بأني مجرد ممثل بل شريك له، وهو يعطي هذه المساحة من الراحة في العمل للممثل، يناقش معنا كل الامور والتفاصيل ولا مانع لديه من الاستماع الى كل الملاحظات لانه صاحب ذهنية منفتحة. لهذا تجدينه لا يفرض رأيه مطلقا بشكل متعسّف. قد تكون لي بعض المآخذ لكنها بسيطة وصغيرة، وأنا لم ألتزم كثيراً بالحوار المكتوب، بل كنت أضيف من عندي وطبعا بعلم بسام الملا وبالإتفاق معه.
من الإنتقادات التي وجهت الى "باب الحارة" ان الملل والتكرار اصابا الحلقات الأخيرة منه، بينما حلّت كل المشاكل دفعة واحدة في آخر حلقة. هل انت مع وجهة النظر هذه؟
أنا احترم كل رأي وكل نقد سواء كان من مشاهد أو فنان أو إعلامي، أو ناقد بين قوسين بسبب ندرة وجود النقاد في أيامنا هذه. لم يأت أحد ليفرض فيروز علينا بل هي التي فرضت نفسها، ورغم هذا تجدين أناساً قد لا يحبونها تماماً كأشخاص لم يحبوا "باب الحارة".
كان لافتاً انه رغم كل النجاح الذي حققه "باب الحارة" والثناء عليه بكل تفاصيله، انتقدته الصحافة السورية بشكل قاس جداً. لماذا؟
هناك مشكلة كبيرة في المشهد الثقافي السوري تقوم على إطار من الشعارات والايديولوجيات التي نوجّه فيها أي شيء تحت إطار الشعار، وكأن هذا الشعار أصبح مسؤولية تحمل على أكتاف المثقف. قالوا ان "باب الحارة" قدّم المرأة بشكل متخلّف وفي وضع مهزوز لكونها مظلومة ومسلوبة الحقوق وخاضعة كليا للرجل في مجتمع ذكوري الخ... فينبري المثقف للدفاع عن حقوق المرأة من خلال شتم المسلسل وتوجيه أقسى السهام اليه. هذه وجهة نظر من عين واحدة وأنا لا أرى فيها نقداً بل "نكد" لأنه لا يمكن ان نلغي حقيقة ما كان يحصل في التاريخ فقط لأن هذه الحقيقة لا تناسب وجهة نظر معينة. بعض أصحاب الشعارات باتوا يمتلكون مزاجاً مريضاً في مشاهدة أي عمل، أقلام تكتب على كيفها وليس على كيف الموضوعية، بينما على الناقد ان يجد لنفسه مساحة كافية للعمل فيقدم نقداً كاملاً متكاملاً لكل العناصر الفنية والفكرية والرسالة المراد إيصالها الى الناس ومدى نجاح العمل في إيصال هذه الرسالة، هذا هو النقد الحقيقي. أنا أستمع الى كل رأي حتى لو شتمني، لكن شرط ان يقنعني. وبالمناسبة أنا
لا أحب المديح ولا أطرب له، بل أطرب للنقد الحقيقي الذي اعتبره إبداعاً يضاف الى الفن. لكني للأسف لم أقرأ حتى الآن أي إبداع من هذا النوع، بل أشعر بأني امام معاول تحفر في رأسي لأفكار عقول مريضة. هذا سمّ قاتل لا يناسب النقد الفني، وهذا لا ينطبق فقط على المقالات الخاصة بباب الحارة بل يشمل عشرات الاعمال الأخرى. ولو كان هذا العمل لا يحمل توقيع بسام الملا، بل توقيع احد المخرجين المنضوين تحت باب الشعارت، لكنا سمعنا من الاشخاص أنفسهم كلاماً آخر حتى ولو كانت الصورة نفسها.
ما السبب، هل هي حرب على بسام الملا؟
فقط لأن بسام الملا حرّ وليس منتميا الى حزب. أما هؤلاء الكتاب فكل منهم تابع لحزب، ومجموعة الأحزاب كلها تقع في قمع الحزب الواحد.
الى أي مدى يؤثر هذا عليكم كممثلين في الوقت الذي نرى حاجة إعلامية ماسة لدعم الدراما السورية؟
أهمّ ما في سوريا اليوم هي الدراما التي صارت صناعة ودخلت غرفة الصناعة. حتى لو انها لا تزال تعمل بشكل مرتجل ولم تصل الى مرحلة الصناعة الحقيقية يجب ان تحترم، لكنها للأسف لا تحترم وكل واحد يريد ان ينسب نجاحها لنفسه. هذه الصناعة لم تأت من فراغ بل نتيجة تراكم خبرات لمجموعة من الرواد والمخضرمين الذين ضحّوا بالكثير من أجلها وبعضهم لا يزال على قيد الحياة. ليس هناك من تخطيط واضح لكل ما ينتج، ومع بداية العام كان هناك خوف على الدراما السورية حيث ان بعض المنتجين أوقفوا إنتاجاتهم، لكن النتيجة التي حققناها وتحديدا مع "باب الحارة اكثر من سواه"، اثبتت ان لا خوف على الدراما السورية، وان الممثل السوري ما زال بخير وقد قدمنا أعمالاً كبيرة ومهمة جدا هذا العام في الدراما السورية، منها "الاجتياح" و"الحصرم الشامي" و"ممرات ضيقة". والأخيران لفؤاد حميرة منعا في سورية.
ما الأسباب؟
الأسباب حكومية ورقابية طبعا. كانت هناك تجارب اكثر من رائعة هذا العام ولعدة مخرجين بينهم مثنّى الصبح وسيف الدين السباعي، وفي هذه التجارب وحدها نستطيع ان نقرأ مستقبلاً آمنا للدراما السورية.
هل ترى ان هناك من يحارب الدراما السورية؟
طبعاً هناك مَن يحاربها، ولا أستطيع ان أجزم، لكن هذا ما يقال. لكن ان كان هذا الكلام دقيقاً وان بالفعل هناك حرب على الدراما السورية من خلال بعض المحطات والقنوات، الا توازي هذه الحرب المقالات الجارحة التي كتبت بحق الاعمال السورية في الصحافة السورية وتوضع في الكفة ذاتها؟! الخطر الأساسي على الدراما السورية يأتي من السوريين أنفسهم الذين يكتبون في الصحف.
ما رأيك في تصريحات بعض الممثلين المصريين عندما يقولون انهم هم الرواد ولا يمكن للدراما السورية ان تنافسهم؟
(يضحك)أولاً نحن لسنا في حلبة ملاكمة وأنا لا اضع نفسي في سجالات من هذا النوع، بل اعتبره كلاماً يقال في الشوارع وليس في الندوات الثقافية. أرى ان هذه السجالات لم تخرج عن اطارها الشخصي، لأنه ليس للفن وطن، لا في سورية ولا لبنان ولا مصر... هل ان الفن ولد وترعرع وسيموت في مصر؟ كلا، على الاطلاق، وأقول هذا مع احترامي وتقديري العميقين للفن المصري لانه بالفعل الرائد والمعلم، لكن ليس كل ما يعرف يقال وليس لأي كان الحق في ان يتكلم باسم الفن المصري.
ألا ترى ان زحمة المسلسلات في شهر رمضان تؤثر سلبا على الكثير من الاعمال، خصوصاً عندما يحقق عمل مثل "باب الحارة" نجاحا كاسحا وبالتالي يظلم أعمالاً أخرى لا تقل أهمية؟
أنا أعترف بخطورة هذا الموضوع، لكن الاعتماد على الموهبة هو الذي يؤدي الى التنوّع والإقناع في الأدوار وتقديمها بشكل مميز مهما كثرت الأدوار. أنا على سبيل المثال قدمت شخصيات عدة هذا العام اعتزّ بها، منها "أبو عصام" في "باب الحارة"، و"ابو جندل" الرجل المقاوم ، و"حمزة" ذات السطوة الاستثنائية في "الحصرم الشامي"، وأيضاً شخصية "عانس" في مسلسل "على حافة الهاوية".وأعتقد انها لاقت القبول جميعها وانني كنت مقنعاً، وهذا يكفيني.
لكن "باب الحارة" هو الذي أكل الأخضر واليابس؟
صحيح، وقد قرأت مقالا امتدحني في إحدى الجرائد السورية، كان عنوانه "ابو عصام" يتغلّب على "ابو جندل". وأقول ان "باب الحارة" ظلم الكثير من المسلسلات الأخرى التي قد تكون اكثر أهمية، لكني لا أجد في الموضوع عملية حرق للمسلسلات والشخصيات.
ما هو أجمل ما رأيته في "باب الحارة"؟
يضحك ويقول "صلعتي".
ولماذا تطيل شعرك اليوم؟
ليس طبعاً كردّ فعل على "صلعتي" في "باب الحارة"، بل من أجل المسلسل التاريخي الجديد الذي أصوّره وهو "ابو جعفر المنصور" من إنتاج التلفزيون القطري، ومن إخراج شوقي الماشفي.