(1143)
وَحَرْفٌ يُدَانِيهِ إِلَى الظَّهْرِ مَدْخَلٌ وَكَمْ حَاذِقٍ مَعْ سِيبَويْهِ بِهِ اجْتَلاَ
يعني يداني النون وهو الراء يخرج من مخرجها لكنه أدخل في ظهر اللسان قليلا من مخرج النون لإنحرافه إلى اللام فهذا معنى قوله إلى الظهر مدخل أي وحرف مدخل إلى الظهر يدانيه وأورد الشيخ أبو عمرو أن هذه العبارة تقتضي أن يكون مخرج الراء قبل النون لأن الراء أدخل منها إلى ظهر اللسان وأجاب بأن المخرج بعد مخرج النون وإنما يشاركه ذلك لا على أنه يستقل به ألا ترى أنك إذا نطقت بالنون والراء ساكنتين وجدت طرف اللسان عند النطق بالراء فبما هو بعد مخرج النون هذا هو الذي يجده المستقيم الطبع قال وقد يمكن إخراج الراء مما هو داخل من مخرج النون أو من مخرجها ولكن يتكلف لا على حسب إجراء ذلك على الطبع المستقيم والكلام في المخارج إنما هو على حسب اشتقاق الطبع لا على التكلف والهاء في به يعود على الظهر أي إن سيبويه وجماعة من الحذاق يجعلون الراء من ظهر اللسان وأنهم ثم اجتلوه أي كشفوه هكذا قال الشيخ ويحتمل أن تكون الهاء عائدة على المذكور أي وكم من حاذق في صناعة العربية أي ماهر بها اجتلا هذا الحرف بهذا المخرج المذكور وهو نص ما في كتاب سيبويه الذي هو إمام نحاة البصريين قال رحمه الله ومن مخرج النون غير أنه أدخل في ظهر اللسان قليلا لإنحرافه إلى اللام مخرج الراء زاد غيره وقال غير أن في الراء تكريرا وكذا ما ذكرناه في اللام والنون هو قول سيبويه ثم قال
(1144)
وَمِنْ طَرَفٍ هُنَّ الثَّلاثُ لِقُطْرُبٍ وَيَحْيى مَعَ الْجَرْمِيِّ مَعْناَهُ قُوِّلاَ
قال أبو عمرو الداني وقال الفراء وقطرب والجرمي وابن كيسان مخارج الحروف أربعة عشر مخرجا فجعلوا اللام والراء والنون من مخرج واحد وهو طرف اللسان قلت أما قطرب فهو أبو علي محمد بن المستنير البصري أحد العلماء بالنحو واللغة أخذ عن سيبويه وغيره ويقال إن سيبويه لقبه قطربا لمباكرته إياه في الأسحار قال له يوما ما أنت إلا قطرب ليل والقطرب دويبة تدب ولا تفتر ومنه حديث ابن مسعود لا أعرفن أحدكم جيفة ليل قطرب نهار قال أبو عبيد يقال إن القطرب دويبة لا تستريح نهارها سعيا وحكى ثعلب أن القطرب الخفيف وكان محمد بن المستنير يبكر إلى سيبويه فيفتح سيبويه بابه فيجده هنالك فيقول له ما أنت إلا قطرب ليل فلقب بذلك وأما يحيى فهو أبو زكريا بن يحيى بن زياد الفراء إمام نحاة الكوفة بعد الكسائي ذكر الخطيب أنه كان ثقة إماما وأنه كان يقال الفراء أمير المؤمنين في النحو وأما الجرمي فهو أبو عمرو صالح بن إسحاق أحد نحاة البصرة قرأ على الأخفش وأخذ اللغة عن أبي عبيدة وأبي زيد والأصمعي وكان ذا دين وورع فهذا معنى قوله ومن طرف اللسان والثلاث بدل من قوله هن أو عطف بيان كقولك في الدار هو زيد أضمرته أولا اعتمادا على أن السامع يعرفه ثم اعترضك شك في معرفته به فأتيت بما يكشفه ويوضحه ويؤكده ومعنى لقطرب أي في قوله ومذهبه فهي لام البيان نحو هيت لك ثم ابتدأ قوله ويحيى وفي قولا ضمير تثنية راجع إلى يحيى والجرمي أي نسب إليهما قول بمعنى ما ذكر قطرب وقال صاحب العين هذه الحروف الثلاثة ذلقية تبتديء من ذلق اللسان وهو تحديد طرفه
(1145)
وَمِنْهُ وَمِنْ عُلْيَا الثَّنَايَا ثَلاَثَةٌ وَمِنْهُ وَمِنْ أَطْرَافِهاَ مِثْلُهاَ انْجَلى
يعني ومن طرف اللسان ومن الثنايا العليا يعني بينهما ثلاثة أحرف وهي الطاء والدال المهملتان والتاء المثناة من فوق وعبارة سيبويه مما بين طرف اللسان وأصول الثنايا زاد غيره مصعدا إلى الحنك وقال الشيخ أبو عمرو وقوله وأصول الثنايا ليس بحتم بل قد يكون ذلك من أصول الثنايا ويكون مما بعد أصولها قليلا مع سلامة الطبع من التكليف ثم قال ومنه يعني ومن طرف اللسان ومن أطرافها أي أطراف الثنايا المذكورة أي مما بينهما وهي عبارة سيبويه مثلها أي ثلاثة أحرف وهي الظاء والذال المعجمتان والثاء المثلثة فهي مثلها في العدية وقال مكي ومن طرفه وما يليه من أطراف الثنايا علياها وسفاها تخرج الظاء والذال والثاء ومعنى انجلا انكشف أي انجلا المذكور بمعنى بأن كل فريق من هذه الستة وظهر مخرجه ويجوز أن يكون الضمير في انجلا عائدا على لفظ مثل لأنه مفرد وإن عنى به ثلاثة أي انجلا مثلها من المخرج المذكور وقوله عليا الثنايا من باب إضافة الصفة إلى موصوفها والأصل الثنايا العليا ولم يذكر سيبويه في عبارته العليا وهي مراده وهذه إضافة صحيحة لأن الثنايا قسمان سفلى وعليا فميز بالإضافة نحو علماء القوم وفضلاء الرجال وليس في كل جهة إلا ثنيتان فالمجموع أربع وجوز التعبير عن المثنى بالجمع تخفيفا وهو هنا أولى من غيره لا من الإلباس ونظيره قولهم هو عظيم المناكب وغليظ الحواجب وشديد المرافق وضخم المناخر
(1146)
وَمِنْهُ وَمِنْ بَيْنِ الثنَايَا ثَلاَثَةٌ وَحَرْفٌ مِنْ اطْرَافِ الثَّنَاياَ هِيَ الْعُلاَ
أي ومن طرف اللسان ومن بين الثنايا لا أصولها ولا أطرافها ثلاثة أخرى وهي الصاد والسين المهملتان والزاي وقدم سيبويه ذكر هذه الثلاثة التي قبلها وعبارته فيها ومما بين طرف اللسان وفوق الثنايا مخارج الزاي والسين والصاد قال الشيخ وعبر عن ذلك غيره فقال من طرف اللسان وفويق الثنايا السفلى كذا قال وسيبويه لم يصف الثنايا في عبارته في جميع هذه المواضع فلم يقل العليا ولا السفلى وقال الشيخ أبو عمرو قولهم الثنايا في هذه المواضع إنما يعنون الثنايا العليا وليس ثم إلا ثنيتان وإنما عبروا عنها بلفظ الجمع لأن اللفظ به أخف مع كونه معلوما وإلا فالقياس أن يقال وأطراف الثنيتين وقال في الزاي وأختيها هي تفارق مخرج الطاء وأختيها لأنها بعد أصول الثنايا أو بعد ما بعد أصولها وتفارق الطاء وأختيها لأنها قبل أطراف الثنايا وقال غيره هي من حانته قليلا من مخرج الظاء بحيث لا تلصق اللسان بالثنايا عند إخراجها ثم بين الناظم مخرج الفاء بقوله ، بيان للثنايا والعلا جمع العليا وبتمام هذا البيت تم الكلام في المخارج المتعلقة بالفم وبقي مخرج الشفة وفيها مخرجان لأربعة أحرف ثم تمم الكلام في مخرج الفاء فقال ، (ومنه من بين الثنايا ثلاثة وحرف من أطراف الثنايا هي العلا)
(1147)
وَمِنْ بَاطِنِ السُّفْلَى مِنَ الشَّفَتَيْنِ قُلْ وَلِلشَّفَتَيْنِ اجْعَلْ ثَلاَثاً لِتَعْدِلاَ
أي مخرج الفاء من باطن الشفة السفلى وأطراف الثنايا العليا هذه عبارة سيبويه وبقي ثلاثة أحرف وهي الواو والفاء الموحدة والميم مخرجها مما بين الشفتين فهذه حروف الشفة وحروف الحلق هي السبعة المبتدأ بذكرها والبواقي حروف الفم والفاء مشتركة بين الثنايا والشفة فمن حيث تعلقها بالثنايا فارقت حروف الشفة ومن حيث لا تعلق لها باللسان فارقت حروف الفم فالتحقيق أنها قسم برأسها ونصب لتعدلا بلام التعليل فإن كانت فتعدلا يكون نصبها بالفاء في جواب الأمر
(1148)
وَفِي أَوَّلِ مِنْ كِلْمِ بَيْتَيْنِ جَمْعُهاَ سِوَى أَرْبَعٍ فِيهِنَّ كِلْمَةٌ أَوّلاَ
لما أجمل ذكر الحروف عند مخارجها أتى بها مضمنة في أوائل كلمات بيتين على ترتيب ما بينه من المخارج فقوله وفي أول أي في حروف أول وأول جمع أولى ووجه هذا التأنيث ما سبق ذكره في قوله ثلاث بأقصى الحلق لأنه نعت لحروف والحروف عبارة عن أسماء حروف التهجي وتلك الأسماء يجوز تأنيثها فكأنه قال وفي أوائل من كلمات بيتين جمع هذه الحروف ذوات هذه المخارج فقوله كلم بكسر الكاف وسكون اللام هو تخفيف كلم بفتح الكاف وكسر اللام مثل قولهم فخذ في فخذ وكبد في كبد ثم قال سوى أربع أي سوى أربع أحرف فإنك لا تأخذهما من أوائل الكلمات وإنما تأخذها من مجموع الكلمة الأولى من البيت الأول من البيتين المذكورين وقوله فيهن أي في جمعهن جمع كلمة أول البيتين فأولا مخفوض بإضافة كلمة إليه لكنه لا ينصرف هكذا قال الشيخ وهو مشكل فإن الكلمة حينئذ تبقى مجهولة في البيت الأول فما من كلمة فيه إلا ويصدق عليها هذه العبارة فالوجه أن يكون كلمة منونة وأولا ظرف ألقيت حركة همزته على التنوين فهذا أولى لتتعين الكلمة الأولى من البيتين لجميع الحروف الأربعة على ما نبينه ثم ذكر البيتين فقال
(1149)
(أَهَاعَ) (حَـ)ـشَا (غَـ)ـاوٍ (خَـ)ـلاَ (قَـ)ـارِئٍ (كَـ)ـمَا (جَـ)ـرَى (شَـ)ـرْطُ (يُـ)ـسْرَى (ضَـ)ـارِعٍ (لَـ)ـلاحَ (نَـ)ـوْفَلاَ
أهاع هي الكلمة المضمنة أربعة أحرف من حروف الحلق وهي الثلاثة التي بأقصى الحلق وواحد من وسطه والثاني أول حشا والحرفان اللذان من أول الحلق هما أول غاو خلا وهكذا أخذ الباقي من الحروف من أوائل الكلمات إلى آخر البيت وهو النون الذي عبر عنه بقوله ودونه ذو ولا وكان الوجه تقديم ذكر الألف على الهاء عند ذكر الحروف الحلقية فقال الهمزة والألف والهاء كذلك عبر عنه سيبويه وغيره فعدل الناظم إلى تقديم الهاء على الألف لأنه لم يطاوعه كلمة مستعملة على ذلك الترتيب ولو فرض أن أهع له معنى لما كان محصلا للغرض لأن المدة بعد الهمزة لا يتفطن لها أنها مقصودة حرفا ولهذا يسقط من الرسم ألا ترى أنه إذا كتب اسم آدم لم يكتب بعد الهمزة إلا الدال وسقطت المدة وإذا قيل أهاع كان ستافي تعداد الحروف ومعنى أهاع أفزع من قولهم هاع ويهيع ويهاع إذا جبن ومنه الهيعة لكل ما أفزعك من صوت أو فاحشة تشاع ويقال هاع يهوع إذا فاء وكلاهما محتمل هنا في قوله هاع على ما نبينه والحشاء ما انضمت الضلوع عليه والجمع أحشاء والغاوي اسم فاعل من غوى يغوي غيا أي ضل وحشى غاو هو مفعول أهاع مقدم على فاعله والفاعل قوله خلا قاريء والخلا بالقصر الرطب من الحشيش والرطب بضم الراء الكلأء ويقال فلان حسن الخلاء أي طيب الكلام يكنى بذلك عن جودة قراءته وطيب حديثه وكنى به الناظم عن جودة قراءة القاريء وما بجنيه ساقها من التلذذ بها أي إن قراءة هذا القاريء أفرغت حشا القاريء الضال المنهمك في طغيانه فألقى ما في باطنه من الأخلاق الذميمة واستبدل بها غيرها فقد ظهر وجه التجوز بالمعنيين في أهاع ثم قال كما جرى شرط يسري ضارع وهكذا جرى شرط قراءة من كان ضارعا خاشعا أي ييسر من سمع منه ذلك لليسرى ويحكي عن قراءة صالح المري من هذا الباب عجائب وهو أحد الأئمة المتقدمين السادة رحمه الله تعالى والنوفل الكثير العطاء أي لاح هذا القاريء كثير الفوائد والله أعلم