(1134)
وَهَاكَ مَوَازِينُ الْحُرُوفِ وَمَا حَكَى جَهَابِذَةُ النُّقَّادِ فِيهاَ مُحَصَّلاَ
هاك أي خذها اسم فعل والكاف للخطاب والموازين جمع ميزان وموازين الحروف مخارجها سماها بذلك لأنها إذا أخرجت منها لم يشارك صوتها شيء من غيرها فهي تميزها وتعرف مقدارها كما يفعل الميزان وقوله وما حكى في موضع نصب عطفا على موازين أي وخذ الذي حكى فيها الجهابذة من التعبير عنها واستخراج صفاتها والجهابذة جمع جهبذ وهو الحاذق في النقد والنقاد جمع ناقد يقال نقدت الدراهم إذا استخرجت منها الزيف وكنى بجهابذة النقاد عن الحاذقين بهذا العلم المتضلعين منه ومحصلا بفتح الصاد حال من مفعول حكى أي والذي حكاه العلماء محصلا وحسنت استعارة لفظ النقاد والجهابذة بعد ذكر الموازين وللشيخ رحمه الله في علم التجويد قصيدة يقول ، (للحرف ميزان فلا تك طاغيا فيه ولا تك مخسر الميزان)
(1135)
وَلاَ رِيَبةٌ فِي عَيْنِهِنَّ وَلاَ رِباَ وَعِنْدَ صَلِيلِ الزَّيْفِ يَصْدُقُ الاِبْتِلاَ
في عينهن أي في نفسهن والريبة الشك والربا الزيادة أي لا شك في أنهن متعينات مخارج وصفات يتميز بها بعضها من بعض يدرك ذلك بالحس فهو ضروري لا شك فيه ولا يمكن الزيادة في التعريف بها بما يكذبه الحس وكذا النقصان وإنما ترك ذكره لظهوره فإن لفظ الزيادة يدل عليه فهو من باب قوله تعالى تقيكم الحر أي والبرد وإلا فلا مناسبة بين قوله ولا ريبة ولا ربا إلا المجانسة اللفظية يعني أنه أتى بها خالصة العبارة في الدلالة على المقصود ثم تمم البيت بما معناه أن هذا الذي ادعيته لا يخفى لأن الزيف صليله شاهد عليه وها هي معروضة عليك أي عند نطق الناطق بالحرف يبين للناقد العارف بالمخارج والصفات أن نطقه به على صحة أو فيه خلل فصوت المختل كصليل الزيف والصليل الصوت والزيف مصدر زاف الدرهم إذا رديء ويقال أيضا درهم زائف وزيف أي رديء وصفوه بالمصدر وغلب ذلك عليه نحو رجل عدل فيجوز أن يكون الزيف في البيت بمعنى الزائف ويجوز أن يكون المصدر والابتلاء الاختبار أي الناقد إذا اختبره وهما ينقده عند الريبة فيه فيظهر فيه صوت الرداءة صدق اختباره والاستعارات التي في هذا البيت أيضا تابعة للمجازاة السابقة فهو من باب المجاز المرشح وله نظائر
(1136)
وَلاَ بُدَّ فِي تَعْيِينِهِنَّ مِنَ الأولى عُنُوا بِالْمَعانِي عَامِلينَ وَقُوَّلا
أي لا بد لنا في حصول تعيينهن والتعريف بهن من نقل أقوال الذين اعتنوا بالمعاني فاستنبطوها وأحكموها أي إني أذكر ما ذكر أئمة العلماء بذلك فالأولى بمعنى الذين وعاملين حال منهم وقولا عطف عليه وهو جمع قائل أي قائلها عاملين بها والضمير في تعيينهن قال الشيخ للموازيين وكذا ولا ريبة في عينهن ويجوز أن يكون للحروف على معنى ولا بد في تعيين ما تتميز به من المخارج والصفات من الاستعانة بعبارة المتقدمين وإن كان الحس يشهد بذلك
(1137)
فَابْدَأْ مِنْهاَ بِالْمَخَارِجِ مُرْدِفاً لَهُنَّ بِمَشْهُورِ الصِّفَاتِ مُفَصِّلاَ
منها أي من المعاني إن كان أراد بقوله عنوا بالمعاني المخارج والصفات وإن كان أراد مطلق المعاني فالهاء في منها عائدة على الحروف وهذا مما يقوي أن الضمير في تعيينهن للحروف وفي قوله ، (وما هاك موازين الحروف ) ، ويكون منها على حذف مضاف أي في أحكام الحروف وقوله مردفا لهن للمخارج بذكر ما اشتهر من صفات الحروف مفصلا ذلك أي مبينا ثم شرع في ذكر المخارج وقال
(1138)
ثَلاَثٌ بِأَقْصَى الْحَلْقِ وَاثْنانِ وَسْطَهُ وَحَرْفَانِ مِنْهاَ أَوَّلَ الْحَلْقِ جُمِّلاَ
أي منها ثلاثة أحرف حلت بأقصى الحلق وحرفان في وسطه وحرفان أوله وجملا نعت لحرفان فالألف ضمير التثنية ذكر في هذا البيت سبعة أحرف وهي المسماة حروف الحلق وإنما قال ثلاث ولم يقل ثلاثة ومراده ثلاثة أحرف لأن الأحرف عبارة عن حروف المعجم وتلك يجوز معاملة ألفاظها بالتأنيث والتذكير فقال ثلاث بلفظ التأنيث العددي اعتبارا لذلك المعنى ثم قال واثنان فاعتبر اللفظ فذكر وقد تقدم الكلام في ذلك أيضا في شرح قوله في الأصول غير عشر ليعدلا ومثله قول عمر بن أبي ربيعة ثلاث شخوص كاعبات ومعصرا أنث عدد شخوص وهو لفظ مذكر لما أراد به نساء ذكر سيبويه رحمه الله أن مخارج الحروف ستة عشر مخرجا وهي دائرة على ثلاثة الحلق والفم والشفة ويقال الحلق واللسان والشفتان والمعنى واحد وكل ذلك على التقريب وإلحاق ما اشتد تقاربه بمقاربه وجعله معه من مخرج واحد والتحقيق أن كل حرف له مخرج يخالف الآخر باعتبار الصفات وإلا كان إياه فللحلق ثلاثة مخارج أقصاه وأوسطه وأدناه إلى الفم وهو المراد بقوله أول الحلق ولهذا سميت هذه الحروف السبعة لحروف الحلق إضافة لها إلى مخرجها فالثلاثة التي لأقصى الحلق الهمزة والألف والهاء وهي على هذا الترتيب فالهمزة أقصى الحروف مخرجا تكاد تخرج من الصدر والحلق فإن اللذان من أوسط الحلق هما العين والحاء المهملتان والحرفان اللذان من أدنى الحلق هما الغين والخاء المعجمتان ويتبين لك مخرج كل حرف بأن تنطق بالحرف ساكنا وقبله همزة وصل ثم شرع في الحروف التي تخرج من الفم وفيه عشرة مخارج لثمانية عشر حرفا في أربعة مواضع من اللسان أقصاه ووسطه وحافته وطرفه ففي الأقصى مخرجان وفي الوسط واحد وفي الحافة مخرجان وفي الطرف خمسة مخارج فقال
(1139)
وَحَرْفٌ لَهُ أَقْصَى اللِّسَانِ وَفَوْقَهْ مِنَ الْحَنَكِ احْفَظْهُ وَحَرْفٌ بِأَسْفَلاَ
أي ومنها حرف مخرجه أقصى اللسان وهو الذي يلي أول الحلق فقوله وفوقه أي وما فوقه في الحنك فحذف الموصول ضرورة وهذا الحرف هو القاف ثم قال وحرف بأسفلا أي ومنها حرف بأسفل الحنك مع كونه في أقصى اللسان وهو الكاف يقال لها أقصى اللسان وما تحته من الحنك ومنهم من يقول وما فوقه من الحنك مما يلي مخرج القاف قال الشيخ أبو عمرو رحمه الله والأمر في ذلك قريب لأنه قد يوجد على كل واحد من الأمرين بحسب اختلاف الأشخاص مع سلامة الذوق فعبر كل واحد على حسب وجدانه
(1140)
وَوَسْطُهُمَا مِنْهُ ثَلاَثٌ وَحَافَةُ الْلِسَانِ فَأَقْصَاهَا لِحَرْفٍ تَطَوَّلاَ
أي وسط اللسان والحنك منه يخرج ثلاثة أحرف وهي الجيم والشين المعجمة والياء المثناة من تحت فقوله منه ثلاث جملة ابتدائية هي خبر وسطها ثم ابتدأ قائلا وحافة اللسان لحرف تطولا وقوله فأقصاها بدل من حافة اللسان على زيادة الفاء ويعني بذلك أولا حافة اللسان كما ذكر الأئمة والحرف الذي يطول هو الضاد المعجمة لأنه استطال حتى اتصل بمخرج اللام على ما سيأتي بيانه وهو يخرج من أول حافة اللسان وما يليها من الأضراس فهذا معنى قوله لحرف تطولا إلى ما يلي الأضراس على ما تراه في البيت الآخر وهو
(1141)
إِلى مَا بَلِى الأَضْرَاسَ وَهْوَ لَدَيْهِمَا يَعِزُّ وَبِالْيُمْنَى يَكُونُ مُقَلَّلاً
أي تطول إلى الموضع الذي يلي الأضراس وقوله وهو يعني أيضا ولديهما أي لدى الجهتين اليمنى واليسرى فاضمر ما لم يجر له ذكر لأن في قوة الكلام دليلا عليه وهو قوله ما يلي الأضراس فإن الأضراس موجودة في الجانبين وقوله يعز أي يقل ويضعف خروجها منهما ولهذا قال سيبويه إنها تتكلف من الجانبين بل من الناس من يخرجها من الجانب الأيمن وهو قليل وهو معنى قوله وباليمنى أي وبالجهة اليمنى يكون مقللا والأكثر على إخراجها من الجانب الأيسر على حسب ما يسهل على المتكلم وقيل إن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان يخرجها من الجانبين ومنهم من يجعل مخرج الضاد قبل مخرج الجيم والشين والياء
(1142)
وَحَرْفٌ بِأَدْنَاهَا إِلى مُنْتَهاَهُ قَدْ بَلِى الْحَنَكَ الأَعْلى وَدُونَهُ ذُو وِلاَ
أي بأدنى حافة اللسان إلى منتها طرف اللسان بينها وبين ما يليها من الحنك الأعلى ومنهم من يزيد على هذا فيقول فويق الضاحك والناب والرباعية والثنية وهو حرف اللام قال الشيخ أبو عمرو وكان يغني أن يقال فويق الثنايا إلا أن سيبويه ذكر ذلك فمن أجل ذلك عددوا وإلا فليس في الحقيقة فوق لأن مخرج النون يلي مخرجها وهي فوق الثنايا فكذلك هذا على أن الناطق باللام يبسط جوانب طرفي لسانه مما فوق الضاحك إلى الضاحك الآخر وإن كان المخرج في الحقيقة ليس إلا فوق الثنايا وإنما ذاك يأتي لما فيها من شبه الشدة ودخول المخرج في ظهر اللسان فيبسط الجانبان لذلك فلذلك عدد الضاحك والناب والرباعية والثنية وقوله ودونه بقصر الهاء أي دون هذا الحرف وهو حرف اللام حرف ذو ولاء أي متابعة له يعني النون مخرجها مما بين طرف اللسان وفويق الثنايا وهي تخرج قليلا من مخرج اللام وقال مكي ومن أدنى طرفه وما يليه في الحنك الأعلى تخرج النون والتنوين ومن ذلك الأدنى داخلا إلى ظهر اللسان قليلا تخرج الراء ثم ذكر مخرج الراء فقال