(1121)
رَوَى الْقَلْبَ ذِكْرُ اللهِ فَاسْتَسْقِ مُقْبِلاَ وَلاَ تَعْدُ رَوْضَ الذَّاكِرِينَ فَتُمحِلاَ
هذا البيت مقفي مثل أول القصيدة وأول سورة الرعد والأنبياء وغيرها وهو حسن كما نبهنا عليه في شرح الذي في أول الرعد وروى القلب ريه يقال روى من الماء يروي على وزن رضى يرضى ويقال في مصدره أيضا ريا وريا بفتح الراء وكسرها نص عليه الجوهري ولما جعل ذكر الله تعالى ريا للقلب أمر بالازدياد من الري فاتبع ذلك اللفظ المجاز ما يناسبه فقال فاستسق أي اطلب السقي مقبلا على ذلك أي أكثر من الذكر والتمس محله ومواضعه ولا تعد أي ولا تتجاوز رياضه والروض جمع روضة فتمحلا أي فتصادف محلا فلا يحصل ري ولا شرب وأشار بذلك وما يأتي بعده إلى أحاديث كثيرة جاءت عن النبي صلى الله عليه وسلم في فضل ذكر الله تعالى والحث عليه وهي مفرقة في الصحيحين وغيرهما ، وقد جمع جعفر الغرياني الحافظ فيه مصنفا حسنا وما أحسن ما قال بلال بن سعيد وهو من تابعي أهل الشام الذكر ذكران ذكر الله باللسان حسن جميل وذكر الله عند ما أحل وحرم أفضل وكيف لا يكون ذكر الله تعالى روى للقلب وقد روى أبو هريرة رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ، يقول الله تعالى أنا عند ظن عبدي بي وأنا معه حين يذكرني فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منهم أخرجه البخاري ومسلم في صحيحيهما ، وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول ، إن لكل شيء صقالة وإن صقالة القلوب ذكر الله تعالى أخرجه الحافظ البيهقي في كتاب الدعوات ، وأما تعبيره عن مجالس الذكر بالروض فلما جاء في حديث جابر بن عبد الله قال خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال ، يا أيها الناس إن لله تعالى سرايا من الملائكة تقف وتحل على مجالس الذكر فارتعوا في رياض الجنة قلنا أين رياض الجنة يا رسول الله قال مجالس الذكر فاغدوا وروحوا في ذكر الله واذكروه بأنفسكم من كان يحب أن يعلم كيف منزلته من الله عز وجل فلينظر منزلة الله عنده فإن الله تبارك وتعالى ينزل العبد حيث أنزله من نفسه أخرجه البيهقي في كتاب الدعوات وشعب الإيمان ، وأخرجه الغرياني وأخرج أيضا في معناه أحاديث كثيرة منها عن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من أحب أن يرتع في رياض الجنة فليكثر من ذكر الله عز وجل
(1122)
وَآثِرْ عَنِ الآثَارِ مَثْرَاةَ عَذْبِهِ وَمَا مِثْلُهُ لِلْعَبدِ حِصْناً وَمَوْئِلاَ
حسن غريب وعن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ، إن لله ملائكة سيارة فضلاء يلتمسون مجالس الذكر فإذا أتوا على قوم يذكرون الله تعالى جلسوا فأظلوهم بأجنحتهم ما بينهم وبين السماء الدنيا فإذا قاموا عرجوا إلى ربهم فيقول تبارك وتعالى وهو أعلم من أين جئتم فيقولون جئنا من عند عباد لك يسبحونك ويحمدونك ويهللونك ويكبرونك ويستجيرونك من عذابك ويسألونك جنتك فيقول الله تعالى وهل رأوا جنتي وناري فيقولون لا فيقول فكيف لو رأوهما فقد أجرتهم مما استجاروا وأعطيتهم ما سألوا فيقال إن فيهم رجلا مر بهم فقعد معهم فيقول وله فقد غفرت إنهم القوم لا يشقى بهم جليسهم وعن الحارث الأشعري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ، إن الله تعالى أوحى إلى يحيى بن زكريا بخمس كلمات أن يعمل بهن ويأمر بني إسرائيل أن يعملوا بهن أن لا يشركوا بالله شيئا وإذا قمتم إلى الصلاة فلا تلتفتوا وأمركم بالصيام والصدقة وضرب لكل واحدة مئلا ثم قال وأمركم بذكر الله تعالى كثيرا ومثل ذلك كمثل رجل طلب العدو سراعا من أثره حتى أتى حصنا حصينا فأحرز نفسه فيه وكذلك العبد لا ينجوا من الشيطان إلا بذكر الله عز وجل ، وعن أبي الدرداء قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ألا أنبئكم بخير أعمالكم وأزكاها عند مليككم وأرفعها من درجاتكم وخير لكم من إعطاء الذهب والورق وأن تلقوا عدوكم فتضربوا أعناقهم ويضربوا أعناقكم قالوا وما ذاك يا رسول الله قال ذكر الله عز وجل أخرجه البيهقي في كتاب الدعوات ففي ذلك تفسير قوله وما مثله للعبد حصنا وموئلا أي وما للعبد مثل الذكر نافعا له هذه المنفعة المشار إليها في الحديث ونصب حصنا وموئلا على التمييز أي ما للعبد حصن وموئل مثل الذكر ويجوز نصبهما على الحال أي مشبها حصنا وموئلا هنا اسم مكان أي موضعا يؤول إليه أي يرجع ويأوى فيه وكل ذلك استعارات حسنة وقد سبق في أول القصيدة تفسير الموئل بالمرجع وهو بهذا المعنى فكل ما تستند إليه فهو موئل لك ولا يجوز نصب حصنا على أنه خبر ما النافية على لغة أهل الحجاز لاختلاف المعنى حينئذ لأنه كان يفيد ضد المقصور من هذا الكلام
(1123)
وَلاَ عَمَلٌ أَنْجى لَهُ مِنْ عَذَابِهِ غَدَاةَ الْجَزَا مِنْ ذِكْرِهِ مُتَقَبَّلاَ
له أي للعبد ولهاء في عذابه وذكره لله تعالى وغداة الجزاء يعني يوم القيامة-لأن النجاة المعتبرة هي المطلوبة ذلك اليوم فنصب غداة على الظرف وقصر الجزاء ضرورة ومتقبلا حال من الذكر فإنه إن لم يكن متقبلا لم يفد الذكر شيئا وضمن هذا البيت حديثا روى مرفوعا وموقوفا ، أما المرفوع فعن ابن عمر في الحديث الذي سبق في أوله ، صقالة القلوب ذكر الله تعالى قال بعد ذلك وما شيء أنجى من عذاب الله من ذكر الله تعالى قالوا ولا الجهاد في سبيل الله قال ولا أن يضرب بسيفه حتى ينقطع وأما الموقوف ففي آخر الحديث الذي سبق أوله ألا أنبئكم بخير أعمالكم ، قال وقال معاذ بن جبل ما عمل آدمي من عمل أنجى له من عذاب الله تعالى من ذكر الله تعالى أخرجهما البيهقي من كتاب الشعب والدعوات الكبير وأخرجه الفريابي في كتابه عن معاذ وزاد قالوا ولا الجهاد في سبيل الله عز وجل قال لا ولو ضرب بسيفه زاد في رواية حتى ينقطع ثلاثا قال الله تعالى-(ولذكر الله أكبر)-والله أعلم
(1124)
ومَنْ شَغَلَ الْقُرْآنُ عَنْهُ لِسَانَهُ يَنَلْ خَيْرَ أَجْرِ الذَّاكِرِينَ مُكَمَّلاَ
جعل الشيخ رحمه الله تفسير هذا البيت الحديث الذي أخرجه الترمذي عن أبي سعيد قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول الرب عز وجل ، من شغله القرآن عن ذكري ومسئلتي أعطيته أفضل ما أعطي السائلين وفضل كلام الله تعالى على سائر الكلام كفضل الله على خلقه قال هذا حديث حسن غريب وقد ذكر طريق هذا الحديث وتكلم عليه الحافظ المقريء أبو العلا الهمذاني في أول كتابه في الوقف والابتداء وقال من شغله قراءة القرآن وفي آخره أفضل ثواب السائلين وفي رواية من شغله القرآن في أن يتعلمه أو يعلمه عن دعائي ومسئلتي وذكره أبو بكر بن الأنباري في أول كتاب الوقف أيضا وأخرجه البيهقي أيضا وأخرجه البيهقي في شعب الإيمان عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن الله تعالى يقول من شغله ذكري عن مسئلتي أعطيته أفضل ما أعطي السائلين ، قال البيهقي وكذا رواه البخاري في التاريخ ، قلت فبان من مجموع هذه الروايات أن الاشتغال بالذكر يقوم مقام الدعاء وأن قراءة القرآن من جملة الاشتغال بالذكر بل هو أفضل وإليه أشار الناظم بقوله خير أجر الذاكرين ومكملا حال إما من خير وإما من أجر وقد نص الإمام الشافعي رضي الله عنه على ذلك فقال أستحب أن يقرأ القرآن يعني في الطواف لأنه موضع ذكر والقرآن من أعظم الذكر والهاء في قوله عنه يجوز أن تعود على الذكر يعني ومع ما ذكرنا من فضيلة الذكر فمن اشتغل عنه بالقرآن فهو أفضل ويجوز أن تعود على من أي من كف لسانه عنه أي أذاه لأن أكثر كلام الإنسان عليه لا له فإذا اشتغل بالقرآن أو الذكر انكف عما يتوقع منه الضرر فصح معنى عنه بهذا التفسير ، وفي الحديث عن أم حبيبة زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ، كل كلام ابن آدم عليه لا له إلا أمرا بمعروف أو نهيا عن منكر وذكر الله وفي الكتاب المذكور للحافظ أبي العلا عن أبي هريرة مرفوعا أعبد الناس أكثرهم تلاوة للقرآن وفيه عن أنس مرفوعا أفضل العبادة قراءة القرآن وتلاوة القرآن أحب إلي قال أبو يحيى الحمامي سألت سفيان الثوري عن الرجل يقرأ القرآن أحب إليك أم يغزو قال يقرأ القرآن فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال ، خيركم من تعلم القرآن وعلمه ، قلت هذا حديث صحيح أخرجه البخاري وقد جمع الحافظ أبو العلا طرقه في أول كتاب الوقف المذكور قال عبد الله بن أحمد بن حنبل سمعت أبي يقول رأيت رب العزة في المنام فقلت يا رب ما أفضل ما يتقرب به المتقربون إليك فقال كلامي يا أحمد فقلت يارب بفهم أو بغير فهم فقال بفهم وبغير فهم ، قلت فكل هذا مما يوضح لنا أن تلاوة القرآن من أعظم الذكر كما قال الشافعي رضي الله عنه لأنه يجمع الذكر باللسان وملاحظة القلب أنه يتلوا كلام الله عز وجل ويؤجر عليه بكل حرف عشر حسنات على ما ثبت في أحاديث أخر
(1125)
وَمَا أَفْضَلُ الأَعْمَالِ إِلاَّ افْتِتَاحُهْ مَعَ الْخَتْمِ حِلاًّ وَارْتِحاَلاً مُوَصَّلاَ
أي افتتاح القرآن مع ختمه أي حاله ختمه للقرآن يشرع في أوله فقوله موصلا حال من الضمير في افتتاحه العائد على القرآن أي في حال وصل أوله بآخره وقوله حلا وارتحالا من باب المصدر المؤكد لنفسه لأن الحل والارتحال المراد بهما افتتاحه مع الختم فهو نحو له على ألف درهم عرفا وأشار بذلك إلى حديث روى من وجوه عن صالح عن قتادة عن زرارة بن أبي أوفى عن ابن عباس قال قال رجل يا رسول الله أي الأعمال أحب إلى الله عز وجل قال الحال المرتحل أخرجه أبو عيسى الترمذي في أبواب القراءة في أواخر كتابه فقال حدثنا نصر بن على الجهضمي قال حدثنا الهيثم بن الربيع حدثني صالح المري فذكره ثم قال هذا حديث غريب لا نعرفه عن ابن عباس إلا من هذا الوجه حدثنا محمد بن بشار حدثنا مسلم بن إبراهيم حدثنا صالح المري عن قتادة عن زرارة بن أبي أوفى عن النبي صلى الله عليه وسلم ولم يذكر فيه عن ابن عباس قال وهذا عندي أصح يعني أنه من حديث زرارة وليس له صحة إلا من حديث ابن عباس وكيف ما كان الأمر فمدار الحديث على صالح المري وهو وإن كان عبدا صالحا فهو ضعيف عند أهل الحديث قال البخاري في تاريخه هو منكر الحديث وقال النسائي صالح المري متروك الحديث ، ثم على تقدير صحته فقد اختلف في تفسيره فقيل المراد به ما ذكره الفراء على ما يأتي بيانه وقيل بل هو إشارة إلى تتابع الغزو وترك الإعراض عنه فلا يزال في حل وارتحال وهذا ظاهر اللفظ إذ هو حقيقة في ذلك وعلى ما أوله به الفراء يكون مجازا وقد رووا التفسير فيه مدرجا في الحديث ولعله من بعض رواته ، قال أبو محمد بن قتيبة في آخر غريب الحديث له في ترجمة أحاديث لا تعرف أصحابها جاء في الحديث أي الأعمال أفضل قال الحال المرتحل قيل ما الحال المرتحل قال الخاتم والمفتتح ، قال ابن قتيبة الحال هو الخاتم للقرآن شبه برجل سافر فسار حتى إذا بلغ المنزل حل به كذلك تالي القرآن يتلوه حتى إذا بلغ آخره وقف عنده والمرتحل المفتتح للقرآن شبه برجل أراد سفرا فافتتحه بالمسير قال وقد يكون الخاتم المفتتح أيضا في الجهاد وهو أن يغزو ويعقب وكذلك الحال المرتحل يريد أنه يصل ذلك بهذا ، قلت هذا هو الظاهر من تفسير هذا اللفظ لوجهين ، أحدهما حمل اللفظ على حقيقته فيكون التفسير الأول الذي ذكره ابن قتيبة في الحديث من كلام بعض الرواة وهو مفصول من الحديث ولهذا لم يكن في كتاب الترمذي إلا قوله الحال المترحل من غير تفسير وكان السائل عن التفسير بعض الرواة لبعض فأجابه المسئول بما وقع له وتقدير الحديث عمل الحال المرتحل وحذف المضاف لدلالة السؤال عليه ، الوجه الثاني أن المحفوظ في الأحاديث الصحيحة غير ذلك فإنه سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن أفضل الأعمال فقال إيمان بالله ثم جهاد في سبيله ثم حج مبرور ، وفي حديث آخر الصلاة لوقتها ثم بر الوالدين ثم الجهاد في سبيل الله ، وقال لأبي أمامة عليك بالصوم فإنه لا مثل له وفي حديث آخر واعلموا أن خير أعمالكم الصلاة ، وإذا فسر الحال المرتحل بمتابعة الغزو وافق قوله ثم جهاد في سبيله أي أنه من أفضل الأعمال كنظائر لذلك يعبر عن الشيء لأنه الأفضل أي هو من جملة الأفضل أي المجموع في الطبقة العليا التي لا طبقة أعلى منها وهذا المعنى قد قررناه في مواضع من كتبنا