(772)
وَيَا أَبَتِ افْتَحْ حَيْثُ جَا لاِبْنِ عَامِر وَوُحِّدَ لِلْمَكِّي آيَاتُ الْوِلاَ
الخلاف في يا أبت مثل ما سبق في يا ابن أم ويا بني بالفتح والكسر والتاء في يا أبت تاء تأنيث عوضت عن ياء الإضافة في قراءة من كسرها لأنه حركها بحركة ما قبل ياء الإضافة لتدل على ذلك وهي في قراءة من فتح عوض من الألف المبدلة من ياء الإضافة في قولك يا أبا وفتحت تحريكا لها بحركة ما قبل الألف وقيل يجوز أن يكون الفتح على حد قولهم في الترخيم يا أميمة بالفتح وقراءة ابن كثير (آية للسائلين) ، بالإفراد أي آية عجيبة كما جاء في آخر السورة (لقد كان في قصصهم عبرة) ، والباقون بالجمع كما جاء في مواضع (إن في ذلك لآية)-(إن في ذلك لآيات) ، ووجه القراءتين ظاهر وكم من آية في ضمنها آيات واختار أبو عبيد قراءة الجمع وقال لأنها عبر كثيرة قد كانت فيهم والولا القرب وهو صفة لقوله (آيات للسائلين) ، أي ذات الولا أي القريبة من قوله يا أبت ولا خلاف في إفراد التي في آخر السورة (وكأين من آية في السموات والأرض)
(773)
غَيَابَاتٍ فِي الْحَرْفَيْنِ بِالْجَمْعِ نَافِعٌ وَتَأْمَنُناَ لِلْكُلِّ يُخْفَي مُفَصَّلاَ
يريد بالحرفين موضعين وهما (وألقوه في غيابت الجب)-(وأجمعوا أن يجعلوه في غيابت الجب) ، والغيابة ما يغيب فيه شيء وغيابة البئر في جانبه فوق الماء فوجه الإفراد ظاهر ووجه الجمع أن يجعل كل موضع مما يغيب غيابة ثم يجمع أو كان في الجب غيابات أي ألقوه في بعض غيابات الجب أو أريد بالجب الجنس أي ألقوه في بعض غيابات الأجبية وأما (مالك لا تأمنا) ، فأصله لا تأمننا بنونين على وزن تعلمنا وقد قريء كذلك على الأصل وهي قراءة شاذة لأنها على خلاف خط المصحف لأنه رسم بنون واحدة فاختلفت عبارة المصنفين عن قراءة القراء المشهورين له ، وحاصل ما ذكروه ثلاثة أوجه إدغام إحدى النونين في الأخرى إدغاما محضا بغير إشمام إدغام محض مع الإشمام إخفاء لا إدغام وهذه الوجوه الثلاثة هي المحكية عن أبي عمرو في باب الإدغام الكبير فالإخفاء هو المعبر عنه بالروم ولم يذكر الشاطبي في نظمه هنا غير وجهين الإخفاء في هذا البيت والإدغام مع الإشمام في البيت الآتي ومال صاحب التيسير إلى الإخفاء وأكثرهم على نفيه قال في التيسير مالك لا تأمننا بإدغام النون الأولى في الثانية وإشمامها الضم قال وحقيقة الإشمام في ذلك أن يشار بالحركة إلى النون لا بالعضو إليها فيكون ذلك إخفاء لا إدغاما صحيحا لأن الحركة لا تسكن رأسا بل يضعف الصوت بها فيفصل بين المدغم والمدغم فيه لذلك وهذا قول عامة أئمتنا وهو الصواب ، لتأكيد دلالته وصحته في القياس فهذا معنى قول الناظم للكل يخفى مفصلا أي نفصل إحدى النونين عن الآخر بخلاف حقيقة الإدغام وقال أبو بكر ابن مهران في كتاب الإدغام مالك لا تأمننا بالإشارة إلى الضمة وتركها قال ولم يحك عن أحد منهم إلا الإدغام المحض من أشار منهم ومن ترك ولو أراد من أشار الإخفاء دون الإدغام لفرقوا وبينوا وقالوا أدغم فلان وأخفى فلان فلما قالوا ادغم فلان وأشار وأدغم فلان ولم يشر درينا أنهم أرادوا الإدغام دون الإخفاء وأنه لا فرق عندهم بين الإشارة وتركها والله أعلم ، وقال صاحب الروضة لا خلاف بين جماعتهم في التشديد والله أعلم
(774)
وَأُدْغَمَ مَعْ إِشْمَامِهِ البَعْضُ عَنْهُمُ وَنَرْتَعْ وَنَلْعَبْ يَاءُ (حِصْنٍ) تَطَوَّلاَ
أي فعل ذلك بعض المشايخ عن جميع القراء وهذا الوجه ليس في التيسير وقد ذكره غير واحد من القراء والنحاة حتى قال بعضهم أجمعوا على إدغام لا تأمننا قال ابن مجاهد كلهم قرأ لا تأمنا بفتح الميم وإدغام النون الأولى في الثانية-والإشارة إلى إعراب النون المدغمة بالضم اتفاقا قال أبو علي وجهه أن الحرف المدغم بمنزلة الحرف الموقوف عليه من حيث جمعهما السكون فمن حيث أشموا الحرف الموقوف عليه إذا كان مرفوعا في الإدراج أشموا النون المدغمة في تأمنا قال وليس هذا بصوت خارج إلى ذلك اللفظ إنما هو تهيئة العضو لإخراج ذلك الصوت به ليعلم بالتهيئة أنه يريد ذلك المهيأ له قال وقد يجوز في ذلك وجه آخر في العربية وهو أن يتبين ولا يدغم ولكنك تخفي الحركة وإخفاؤها هو أن لا تشبعها بالتمطيط ولكنك تختلسها اختلاسا قلت وهذا هو الوجه المذكور في البيت الأول وقال أبو الحسن الحوفي جمهور القراء على الإشمام للإعلام بأن النون من تأمن كانت مرفوعة وصفة ذلك أنك تشير إلى الضمة من غير صوت مع لفظك بالنون المدغمة وهو شيء يحتاج إلى رياضة قال مكي لا تأمنا بإشمام النون الساكنة الضم بعد الإدغام وقبل استكمال التشديد هذه ترجمة القراء قلت ووجه الإشمام الفرق بين إدغام المتحرك وإدغام الساكن ، قال الفراء تشير إلى الرفعة وإن تركت فلا بأس كل قد قريء به والياء في (يرتع ويلعب) ، ليوسف والنون لجميع الإخوة ثم ذكر خلاف القراء في العين فقال
(775)
وَيَرْتَعْ سُكُونُ الْكَسْرِ فِي الْعَيْنِ (ذُ)و (حِـ)ـماً وَبُشْرَايَ حَذْفُ الْيَاءِ (ثَــبْتٌ وَمُيِّلاَ
من أسكن العين فللجزم وقراءته من رتع يرتع أي يتسع في الخصب ومن كسرها فهو من ارتعى يرتعي يفتعل من الرعي فحذف الياء للجزم وأثبتها قنبل في وجه على ما تقدم في باب الزوائد فقرأه الكوفيون بالياء وسكون العين وقراءة نافع بالياء وكسر العين وقراءة ابن عامر وأبي عمرو بالنون وسكون العين وقراءة ابن كثير بالنون وكسر العين وبإشباع كسرتها في وجه ففي يرتع خمس قراءات وفي يلعب قراءتان الياء لحصن والنون للباقين وأما (بشراي) ، فمن حذف ياءه كأن قد نادى البشرى من غير إضافة أي أقبلي فهذا وقتك والباقون على إضافة البشرى إليه وكلاهما ظاهر وقوله ثبت أي قراءة ثبت يقال رجل ثبت أي ثابت القلب ثم ذكر في البيت الآتي أن حمزة والكسائي أمالا الألف على أصلهما لأنها ألف تأنيث لا سيما وقبلها راء فقال
(776)
(شِـ)ـفَاءً وَقَلِّلْ (جِـ)ـهْبِذَا وَكِلاَهُمَا عَنِ ابْنِ الْعَلاَ وَالْفَتْحُ عَنْهُ تَفَضَّلاَ
شفاء حال من الممال أي ذا شفاء وقلل أي أمل بين بين وجهبذا أي مشبها جهبذا وهو الناقد الحاذق في نقده وجمعه جهابذة كأنه أشار بذلك إلى التأنق في التلفظ بين بين فإنها صعبة على كثير ممن يتعاطى علم القراءة أي أمالها ورش بين اللفظين على أصله في إمالة ذوات الراء ثم قال وكلاهما بمعنى الإمالة والتقليل رويا عن أبي عمرو وروى عنه الفتح وهو الأشهر وعليه أكثر أهل الأداء وليس في التيسير غيره واختاره أبو الطيب ابن غلبون بين اللفظين قال مكي وقد ذكر عن أبي عمرو مثل ورش والفتح أشهر وحكى أبو علي الأهوازي الإمالة عن أبي عمرو من طريق اليزيدي قال مكي أما الإمالة المحضة فهي أقيس من الوجهين الأخيرين لأنه أمال البشرى إمالة محضة وأمال الرؤيا بين اللفظين فكما أمال رؤياي بين اللفظين كذلك يقتضي أن يميل بشراي على قياس أصله والفتح فيه وبين اللفظين خروج عن الأصل الذي طرده في إمالته قلت وعلل الداني الفتح بأن ألف التأنيث هنا رسمت ألفا ففتح ليدل على ذلك ويلزم على هذا القياس أن لا يميل رؤياي بين اللفظين كذلك والله أعلم
(777)
وَهَيْتَ بِكَسْرٍ (أَ)صْلُ (كُـ)ـفْؤٍ وَهَمْزُهُ (لِـ)ـسَانٌ وَضَمُّ التَّا (لِـ)ـوَى خُلْفُهُ (دُ)لاَ
أي أصل عالم كفؤ وهمزه لسان أي لغة وقصر لفظ التاء ولوى ضرورة ولوى خلفه مبتدأ ودلا خبره وقد سبق معناه يقال هيت كأين وهيت كحيث وهيت مثل غيظ قريء بهذه الثلاث اللغات وزاد هشام الهمز وهو من أهل كسر الهاء وضم التاء وفتحها وهو اسم فعل بمعنى هلم وأسرع ويقال أيضا هيت كجير ولم يقرأ بهذه اللغة وقيل المهموز فعل من هاء يهييء كجاء يجيء إذا تهيأ فعلى الفتح وهو المشهور عن هشام يكون خطابا ليوسف على معنى حسنت هيئتك أو على معنى تهيأ أمرك الذي كنت أطلبه لأنها ما كانت تقدر في كل وقت على الخلوة به وتحتمل قراءة نافع وابن ذكوان أن أصلها الهمز فخففت وقال أبو علي يشبه أن يكون هيت مهموزا بفتح التاء وهما من الراوي لأن الخطاب يكون من المرأة ليوسف وهو لم يتهيأ لها ولو كان لقالت له هئت لي وجوابه أن يقال وقع قولها لك بيانا لا متعلقا بهيت والمعنى لك أقول والخطاب لك ومثله (وكانوا فيه من الزاهدين)-(بلغ معه السعي) والله أعلم
(778)
وَفِي كَافَ فَتْحُ الَّلامِ فِي مُخْلِصاً (ثَـ)ـوَى وَفِي الْمُخْلِصِينَ الْكُلّ (حِصْنٌ) تَجَمَّلاَ
يريد (إنه كان مخلصا) ، في سورة مريم وسماها كاف لأنها استفتحت بهذه الحروف فصارت كصاد ونون وقاف وفي قوله وفي المخلصين الكل أي حيث جاء معرفا باللام فقوله مخلصين له الدين لا خلاف في كسر لامه ومعنى الكسر أنهم أخلصوا لله تعالى دينهم ومعنى الفتح أخلصهم الله أي اجتباهم وأخلصهم من السوء والله أعلم
(779)
معاً وَصْلُ حَاشَا (حَـ)ـجَّ دَأْباً لِحَفْصِهِمْ فَحَرِّكْ وَخَاطِبْ يَعْصِرُنَ (شَـ)ـمَرْدَلاَ
يريد أن لفظ حاشا جاء في موضعين في هذه السورة (قلن حاش لله ما هذا بشرا)-(قلن حاش لله ما علمنا عليه من سوء) ، أثبت أبو عمرو الألف بعد الشين في الموضعين إذا وصل الكلمة بما بعدها فإن وقف عليها حذف الألف كسائر القراء وقفا ووصلا اتباعا للرسم ولا يكاد يفهم هذا المجموع من هذا اللفظ اليسير وهو قوله معا وصل حاشا حج فإنه إن أراد بوصل حاشا إثبات ألفها في الوصل دون الوقف على معنى وصل هذا اللفظ فيكون من باب قوله وباللفظ استغنى عن القيد إن جلا فكأنه قال وصل حاشا بالمد لم يعلم أي المدين يريد ففي هذه اللفظة ألفان أحدهما بعد الحاء والأخرى بعد الشين وكل واحدة منهما قد قريء بحذفها قرأ الأعمش-حشا لله-وأنشد ابن الأنباري على هذه القراءة ، (حشا رهط النبي فإن منهم بحورا لا تكدرها الدلاء) ، وإن كان أراد بقوله وصل حاشا وصل فتحة الشين بألف كما توصل الضمة بواو والكسرة بياء لم يكن مبينا لحذفها في الوقف وتقدير البيت وصل كلمتي حاشا معا حج أي غلب وحاشا حرف جر يفيد معنى البراءة وبهذا المعنى استعمل في الاستثناء ثم وضع موضع البراءة فاستعمل كاستعمال المصادر فقيل حاشا لله كما يقال براءة لله فلما تنزل منزلة الأسماء تصرفوا فيه بحذف الألف الأولى تارة وبحذف الثانية أخرى وتارة بتنوينه قرأ أبو السمال-حاشا لله-هذا معنى ما ذكره الزمخشري ومال أبو علي إلى أنه فعل فقال هو على فاعل مأخوذ من الحشا الذي يعني به الناحية والمعنى أنه صار في حشا أي في ناحية مما قرن به أي لم يقترنه ولم يلابسه وصار في عزل عنه وناحية وفاعله يوسف ، أي بعد عن هذا الذي رمى به لله أي لخوفه ومراقبة أمره (والدأْب والدأَب لغتان كالمعز والمعز) ، والفاء في فحرك زائدة أي حرك دأبا لحفص ويعصرون بالخطاب والغيبة ظاهر وما فيه الخطاب تارة يجعله مفعولا بالخطاب كهذا وتارة فاعلا نحو وخاطب عما يعملون وكل ذلك لأن الخطاب فيه وشمردلا حال من فاعل خاطب أو مفعوله ومعناه خفيفا والله أعلم