باب الإدغام الكبير
(116)
وَدُونَكَ الاُِدْغَامَ الْكَبِيرَ وَقُطْبُهُ أَبُو عَمْرٍ والْبَصْرِيُّ فِيهِ تَحَفَّلاَ
دونك هنا من ألفاظ الإغراء يقال دونك كذا أي خذه والإدغام مفعول به وقطب كل شيء ملاكه وهو ما يقوم به وقطب القوم سيدهم الذي يدور عليه أمرهم والواو في وقطبه للحال أو للاستئناف وقطبه مبتدأ وأبو عمرو خبره ثم استأنف جملة أخرى فقال فيه تحفلا أي في أبي عمرو اجتمع الإدغام يقال تحفل المجلس وتحفل اللبن في الضرع وتحفل الوادي إذا امتلأ بالماء ويجوز أن يكون أبو عمرو عطف بيان والخبر فيه تحفلا على أن تكون الهاء في فيه للإدغام وفاعل تحفل ضمير عائد على أبي عمرو أي تحفل أبو عمرو في أمر الإدغام من جميع حروفه ونقله والاحتجاج له والقراءة به يقال احتفلت لكذا أو بكذا أو في كذا وتحفل بمعناه مثل اكتسب وتكسب أراد بذلك أن مدار الإدغام على أبي عمرو فمنه أخذ وإليه أسند وعنه اشتهر من بين القراء السبعة والإظهار والإدغام كلامهما مروي عن اليزيدي عن أبي عمرو من طريق الدوري والسوسي وغيرهما ولم أر بعد في كتاب تخصيص رواية السوسي بذلك عن الدوري وقد كان الشيخ الشاطبي رحمه الله يقرئ به من طريق السوسي ولم يوافق أبا عمرو في المشهور على شيء من الإدغام الكبير سوى حمزة في إدغام (بيت طائفة) (والصافات صفا) ، وما ذكر معها في سورتها ، واختلاف أبو طاهر بن أبي هاشم الإظهار كما هو مذهب سائر القراء قال لأن فيه إيتاء كل حرف حقه من إعرابه أو حركة بنيته التي استحقها والإدغام يلبس على كثير من الناس وجه الإعراب ، ويوهم غير المقصود من المعنى نحو قوله تعالى (ومن شكر فإنما يشكر لنفسه)-(والمصور له) ، ولم يذكر أبو عبيد الإدغام في كتابه وقال في (بيت طائفة) ، القراءة عندنا هي الأولى يعني الإظهار لكراهتنا الإدغام إذا كان تركه ممكنا
(117)
فَفِي كِلْمَةٍ عَنْهُ مَنَاسِكَكُمْ وَمَا سَلَككُّمْ وَبَاقِي الْبَابِ لَيْسَ مُعَوَّلاَ
الأولى أن يقرأ مناسككم في هذا البيت من غير إدغام لأنه إن قرىء مدغما لزم ضم الميم وصانتها بواو وليست قراءة أبي عمرو ولا غيره هكذا نعم يجوز من حيث اللغة فلهذا نقول إن اضطررنا إليه جاز ارتكابه كقوله فيما بعد (وطبع على قلوبهم) ، لأن البيت لا يتزن إلا بالصلة وأما سلككم فلا يستقيم التلفظ به في البيت إلا مدغما ساكن الميم وأراد قوله (فإذا قضيتم مناسككم) في البقرة (وما سلككم في سقر) ، في سورة المدثر أي لم يأت الإدغام من أبي عمرو في حرفين في كلمة واحدة إلا في هذين الموضعين ، ويرد عليه نحو (يرزقكم) ، كما سيأتي في أول الباب الآتي فإنه أدغم ذلك وشبهه وجميعه من باب الإدغام الكبير في كلمة واحدة وإنما خصص هذين من باب التقاء المثلين في كلمة واحدة وما أوردناه هو من باب المتقاربين وإنما ورد عليه من جهة أنه لم يقيد بالمثلين بل قال ففي كلمة عنه ولم يتقدم قبل هذا البيت سوى أنه حضنا على الإدغام الكبير ولم يعرفنا ما هو ووقع لي أنه لو قال عوض البيت السابق ، (أبو عمرو البصري يدغم أن تحرركا والتقى المثلان في الثاني الأولا) ، لكان شرحا للإدغام الكبير الواقع في المثلين ويأتي قوله ففي كلمة عنه بعد تمهيد قاعدته وقولنا تحركا والتقى من باب قاما وقعد الزيدان وهو الوجه المختار للبصريين في باب توجه الفعلين إلى فاعل واحد فاعلم أن الإدغام الكبير ضربان ، أحدهما إدغام حرف في مثله وهو الذي ذكره في جميع هذا الباب ، والآخر إدغام حرف في مقاربه وسيأتي في الباب الآخر وشرطهما معا أن يكونا متحركين فإن سكن أول المثلين وجب له إدغام لكل بشرط أن لا يكون حرف مد ولين ثم الحرف الذي يدغم في مثله لا يخلو هو والذي يدغم فيه إما أن يلتقيا في كلمة أو في كلمتين فإن التقيا في كلمة لم يدغم إلا في هاتين الكلمتين المذكورتين في هذا البيت ، ثم قال وباقي الباب ليس معولا أي على إدغامه أو لا معول عليه بإدغام أو التقدير وإدغام باقي الباب ليس معولا عليه فحذف المضاف كما أن التقدير ففي كلمة عنه إدغام مناسككم وباقي الباب مثل قوله تعالى بأعيننا وأتعدانني وجباههم ووجوههم وبشرككم وقد روى إدغام ذلك وهو في بأعيننا أقوى لتحرك ما قبل المثلين وفي بشرككم ضعيف لسكونه وهو حرف صحيح ، وقد أدغم أبو عمرو وغيره مواضع تأتي في سورها مثل ما مكنني وتأمروني أعبد وأتحاجوني في الله وروى إدغام (إن ولي الله) ، في آخر الأعراف وعو ضعيف لأن الحرف المدغم مشدد وسيأتي لأنه لا يدغم مثل ذلك نحو (مس سقر) والله أعلم
(118)
وَمَا كَانَ مِنْ مِثْلَيْنِ في كِلْمَتَيْهِمَا فَلاَ بُدَّ مِنْ إدْغَامِ مَا كانَ أَوَّلاَ
أي وما وجد من هذا القبيل وهو التقاء مثلين في كلمتين ويلزم من ذلك أن يكون أحدهما آخر كلمة والآخر أول كلمة بعدها فلابد من إدغام الأول في الثاني إلا ما يأتي استثناؤه مما أجمع عليه أو اختلف فيه وشرطهما أن يتحركا فإن سكن الأول أدغم للجميع وإن سكن الثاني فلا إدغام للجميع ، مثال الأول (إذ ذهب)-(وقد دخلوا) ومثال الثاني (إلى الصلاة اتخذوها)-(كمثل العنكبوت اتخذت) ، ثم هذا الإدغام في المثلين من كلمتين يأتي في القرآن في سبعة عشر حرفا لأن عشرة من باقي الحروف لم يلتق منها مثلان متحركان في القرآن وهي الجيم والخاء المعجمة والدال والذال والزاي والشين المعجمة والصاد والضاد والطاء الظاء ، وأما الألف فلا يتأتى إدغامها لأنها لا تزال ساكنة ، وأما الهمزتان إذا التقتا فأبو عمرو يسقط الأولى إن اتفقتا ويسهل الثانية إن اختلفتا على ما سيأتي بيانه فلا إدغام فيها ، وأما الحروف التي تدغم في مقاربها فستة عشر حرفا ستأتي في الباب الآتي وأما نحو قوله (أنا نذير) ، فإن المثلين التقيا لفظا ولا إدغام محافظة على حركة النون ولهذا تعمد بألف في الوقف ومما يدغم آخر سورة الرعد وإبراهيم إذا وصلا بالنسبة عند من يرى ذلك لأبي عمرو وقد ذكر فيه خلاف والله أعلم
(119)
كَيَعْلَمُ مَا فِيهِ هُدًى وَطُبِعْ عَلَى قُلُوبِهِمُ وَالْعَفْوَ وَأْمُرْ تَمَثَّلاَ
مثلى التقاء المثلين في كلمتين ، وقد تقدم أن ذلك واقع في سبعة عشر حرفا وهي الباء والتاء والثاء والحاء المهملة والراء والسين المهملة والعين وعشرة الأحرف بعدها مثال ذلك (لذهب بسمعهم)-(الشوكة تكون)-(ثالث ثلاثة)-(لا أبرح حتى)-(فاستغفر ربه)-(وترى الناس سكارى)-(وطبع على قلوبهم)-(ومن يبتغ غير الإسلام) ، وليس في القرآن للغين غيره (تعرف في وجوههم)-(الغرق قال آمنت)-(إنك كنت بنا)-(جعل لكم)-(تعلم ما)-(أحسن نديا)-(إلا هو والملائكة)-(إنه هو) ولا تمنع صلة الهاء ، (نودي يا موسى) ، وقوله تمثلا أي تمثل المذكور وهو إدغام أول المثلين إذا التقيا في كلمتين ، ومعنى تمثلا أي تشخص وتشكل وتصور وتبين وقد تضمن ما مثل به في هذا البيت ثلاثة أنواع عليها مدار الباب ، وذلك أن الحرف المدغم إما أن يكون قبله متحرك أولا فإن كان فمثاله (يعلم ما)-(وطبع على) ، وإن لم يكن متحركا فإما أن يكون حرف مد أو لا فإن كان فمثاله (فيه هدى) ، وإن لم يكن حرف مد فهو حرف صحيح ومثاله (خذ العفو وأمر) ، وهذا القسم إطلاق الإدغام عليه فيه مسامحة بخلاف النوعين المتقدمين وسيأتي تحقيق ذلك في آخر باب إدغام المتقاربين ، ثم ذكر ما استثنى إدغامه من المثلين فقال
(120)
إِذَا لَمْ يَكُنْ تَا مُخْبِرٍ أَوْ مُخَاطَبٍ أوِ الْمُكْتَسِي تنْوِينُهُ أَوْ مُثَقَّلاَ
الضمير في يكن عائد إلى قوله ما كان أولا أي إذا لم يكن ذلك الأول من المثلين تاء مخبر أي ضميرا هو تاء دالة على المتكلم أو يكن تاء مخاطب أو يكن الذي اكتسى تنوينه أي منونا ، وأشار بذلك إلى أن نون التنوين كالحلية والزينة فلا ينبغي أن يعدم وقصر لفظ تا وأسكن ياء المكتسي ضرورة وهما منصوبان خبرين لقوله يكن ولهذا نصب أو مثقلا وعلة استثناء المنون والمثقل ظاهرة ، أما المنون فلأن التنوين حاجز بين المثلين وهو حرف صحيح معتد به في زنة الشعر ، وتنقل إليه حركة الهمزة ويكسر لالتقاء الساكنين ، وأما المثقل فيستحيل إدغامه بدون حذف أحد الحرفين من المشدد وقد حكى بعضهم إدغامه على لغة تخفيف المشدد وحكى بعضهم إدغام (من أنصار ربنا) ، ولم يعتد بالتنوين لذهابه في الوقف وحكى بعضهم إدغام (لقد كدت تركن) ، وفيه المانعان الخطاب والتشديد والعلة في استثناء تاء المخبر والمخاطب كونهما كناية عن الفاعل أو شبهه والإدغام تقريب من الحذف والفاعل لا يحذف نحو (كنت ترابا)-(وما كنت تتلو) ، وألحق بذلك التاء من أنت تكره وشبهه ليكون الباب واحدا وذكر لذلك علل أخر هي في الشرح الكبير
(121)
كَكُنْتُ تُرَاباً أَنْتَ تُكْرِهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ وَأَيْضاً تَمَّ مِيقاَتُ مُثِّلاَ
هذه أمثلة ما تقدم استثناؤه في البيت السابق على ترتيبه وقوله وأيضا أي أمثل النوع الرابع ولا أقتصر على تمثيل الأنواع الثلاثة وهو مصدر آض إذا رجع والضمير في مثلا عائد على المذكورات أي مثل جميع المستثنى أو يكون عائدا على لفظ (تم ميقات) ، أي وأيضا ثم ميقات مثل به كما مثل بالثلاثة الأول ومثله (مس سقر)-(وخر راكعا)-(وأحل لكم) ، وقد أورد على استثناء المنون الهاء الموصولة بواو أو ياء نحو (سبحانه هو الله)-(من فضله)-(هو خيرا لهم) ، وقيل يلزم استثناؤه أيضا فإن الواو والياء حرف حاجز بين المثلين ، زعم أبو حاتم وغيره أن الإدغام فيها غير جائز ، والفرق بينهما أن التنوين حرف مستقل مقصود في نفسه دال على تمكن الاسم وصرفه والصلة عبارة عن إشباع حركة الهاء فلم يكن لها استقلال ولهذا تحذف للساكن والتنوين يحرك ، وإذا اجتمع التنوين وحرف العلة حذف حرف العلة وبقي التنوين نحو قاض وغاز فهو أولى بالاعتداد فضلا عن الصلة والله أعلم
(122)
وَقَدْ أَظْهَرُوا فِي الْكَافِ يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ إِذِ النُّونُ تُخْفَى قَبْلَهَا لِتُجَمَّلاَ
أراد قوله تعالى في سورة لقمان (ومن كفر فلا يحزنك كفره) ، استثناه بعضهم للعلة التي ذكرها وبعضهم أدغمه جريا على الأصل والضمير في أظهروا يعود إلى بعض المصنفين والرواة وأهل الاختيار لا إلى جميعهم لأنهم مختلفون في ذلك على ما نقلناه في الشرح الكبير وهذه العلة ذكرها أبو طاهر بن أبي هاشم وغيره وهي أن الإخفاء تقريب من الإدغام والنون تخفى قبل الكاف على ما سيأتي تقريره في باب أحكام النون الساكنة والتنوين وإذا كان الإخفاء كالإدغام فكأن الكاف ، الأولى مدغم فيها فتكون كالحرف المشدد في (مس سقر) ونحوه وذلك ممتنع الإدغام فكذا هذا وهذه العلة تقوي استثناء تاء المخبر والمخاطب في نحو كنت وأنت لأن النون أيضا مخفاة قبل التاء فكأن الناظم أراد بهذه العبارة الاستدلال على صحة استثناء تاء المخبر والمخاطب فقال إنهم أظهروا الكاف من (يحزنك) لهذه العلة وهي موجودة في تاءى المخبر والمخاطب وإذ ظرف فيه معنى التعليل وقوله لتجملا تعليل لإخفاء النون أو للإظهار والضمير فيه للكلمة أي لتجمل الكلمة ببقائها على صورتها والله أعلم
(116)
وَدُونَكَ الاُِدْغَامَ الْكَبِيرَ وَقُطْبُهُ أَبُو عَمْرٍ والْبَصْرِيُّ فِيهِ تَحَفَّلاَ
دونك هنا من ألفاظ الإغراء يقال دونك كذا أي خذه والإدغام مفعول به وقطب كل شيء ملاكه وهو ما يقوم به وقطب القوم سيدهم الذي يدور عليه أمرهم والواو في وقطبه للحال أو للاستئناف وقطبه مبتدأ وأبو عمرو خبره ثم استأنف جملة أخرى فقال فيه تحفلا أي في أبي عمرو اجتمع الإدغام يقال تحفل المجلس وتحفل اللبن في الضرع وتحفل الوادي إذا امتلأ بالماء ويجوز أن يكون أبو عمرو عطف بيان والخبر فيه تحفلا على أن تكون الهاء في فيه للإدغام وفاعل تحفل ضمير عائد على أبي عمرو أي تحفل أبو عمرو في أمر الإدغام من جميع حروفه ونقله والاحتجاج له والقراءة به يقال احتفلت لكذا أو بكذا أو في كذا وتحفل بمعناه مثل اكتسب وتكسب أراد بذلك أن مدار الإدغام على أبي عمرو فمنه أخذ وإليه أسند وعنه اشتهر من بين القراء السبعة والإظهار والإدغام كلامهما مروي عن اليزيدي عن أبي عمرو من طريق الدوري والسوسي وغيرهما ولم أر بعد في كتاب تخصيص رواية السوسي بذلك عن الدوري وقد كان الشيخ الشاطبي رحمه الله يقرئ به من طريق السوسي ولم يوافق أبا عمرو في المشهور على شيء من الإدغام الكبير سوى حمزة في إدغام (بيت طائفة) (والصافات صفا) ، وما ذكر معها في سورتها ، واختلاف أبو طاهر بن أبي هاشم الإظهار كما هو مذهب سائر القراء قال لأن فيه إيتاء كل حرف حقه من إعرابه أو حركة بنيته التي استحقها والإدغام يلبس على كثير من الناس وجه الإعراب ، ويوهم غير المقصود من المعنى نحو قوله تعالى (ومن شكر فإنما يشكر لنفسه)-(والمصور له) ، ولم يذكر أبو عبيد الإدغام في كتابه وقال في (بيت طائفة) ، القراءة عندنا هي الأولى يعني الإظهار لكراهتنا الإدغام إذا كان تركه ممكنا
(117)
فَفِي كِلْمَةٍ عَنْهُ مَنَاسِكَكُمْ وَمَا سَلَككُّمْ وَبَاقِي الْبَابِ لَيْسَ مُعَوَّلاَ
الأولى أن يقرأ مناسككم في هذا البيت من غير إدغام لأنه إن قرىء مدغما لزم ضم الميم وصانتها بواو وليست قراءة أبي عمرو ولا غيره هكذا نعم يجوز من حيث اللغة فلهذا نقول إن اضطررنا إليه جاز ارتكابه كقوله فيما بعد (وطبع على قلوبهم) ، لأن البيت لا يتزن إلا بالصلة وأما سلككم فلا يستقيم التلفظ به في البيت إلا مدغما ساكن الميم وأراد قوله (فإذا قضيتم مناسككم) في البقرة (وما سلككم في سقر) ، في سورة المدثر أي لم يأت الإدغام من أبي عمرو في حرفين في كلمة واحدة إلا في هذين الموضعين ، ويرد عليه نحو (يرزقكم) ، كما سيأتي في أول الباب الآتي فإنه أدغم ذلك وشبهه وجميعه من باب الإدغام الكبير في كلمة واحدة وإنما خصص هذين من باب التقاء المثلين في كلمة واحدة وما أوردناه هو من باب المتقاربين وإنما ورد عليه من جهة أنه لم يقيد بالمثلين بل قال ففي كلمة عنه ولم يتقدم قبل هذا البيت سوى أنه حضنا على الإدغام الكبير ولم يعرفنا ما هو ووقع لي أنه لو قال عوض البيت السابق ، (أبو عمرو البصري يدغم أن تحرركا والتقى المثلان في الثاني الأولا) ، لكان شرحا للإدغام الكبير الواقع في المثلين ويأتي قوله ففي كلمة عنه بعد تمهيد قاعدته وقولنا تحركا والتقى من باب قاما وقعد الزيدان وهو الوجه المختار للبصريين في باب توجه الفعلين إلى فاعل واحد فاعلم أن الإدغام الكبير ضربان ، أحدهما إدغام حرف في مثله وهو الذي ذكره في جميع هذا الباب ، والآخر إدغام حرف في مقاربه وسيأتي في الباب الآخر وشرطهما معا أن يكونا متحركين فإن سكن أول المثلين وجب له إدغام لكل بشرط أن لا يكون حرف مد ولين ثم الحرف الذي يدغم في مثله لا يخلو هو والذي يدغم فيه إما أن يلتقيا في كلمة أو في كلمتين فإن التقيا في كلمة لم يدغم إلا في هاتين الكلمتين المذكورتين في هذا البيت ، ثم قال وباقي الباب ليس معولا أي على إدغامه أو لا معول عليه بإدغام أو التقدير وإدغام باقي الباب ليس معولا عليه فحذف المضاف كما أن التقدير ففي كلمة عنه إدغام مناسككم وباقي الباب مثل قوله تعالى بأعيننا وأتعدانني وجباههم ووجوههم وبشرككم وقد روى إدغام ذلك وهو في بأعيننا أقوى لتحرك ما قبل المثلين وفي بشرككم ضعيف لسكونه وهو حرف صحيح ، وقد أدغم أبو عمرو وغيره مواضع تأتي في سورها مثل ما مكنني وتأمروني أعبد وأتحاجوني في الله وروى إدغام (إن ولي الله) ، في آخر الأعراف وعو ضعيف لأن الحرف المدغم مشدد وسيأتي لأنه لا يدغم مثل ذلك نحو (مس سقر) والله أعلم
(118)
وَمَا كَانَ مِنْ مِثْلَيْنِ في كِلْمَتَيْهِمَا فَلاَ بُدَّ مِنْ إدْغَامِ مَا كانَ أَوَّلاَ
أي وما وجد من هذا القبيل وهو التقاء مثلين في كلمتين ويلزم من ذلك أن يكون أحدهما آخر كلمة والآخر أول كلمة بعدها فلابد من إدغام الأول في الثاني إلا ما يأتي استثناؤه مما أجمع عليه أو اختلف فيه وشرطهما أن يتحركا فإن سكن الأول أدغم للجميع وإن سكن الثاني فلا إدغام للجميع ، مثال الأول (إذ ذهب)-(وقد دخلوا) ومثال الثاني (إلى الصلاة اتخذوها)-(كمثل العنكبوت اتخذت) ، ثم هذا الإدغام في المثلين من كلمتين يأتي في القرآن في سبعة عشر حرفا لأن عشرة من باقي الحروف لم يلتق منها مثلان متحركان في القرآن وهي الجيم والخاء المعجمة والدال والذال والزاي والشين المعجمة والصاد والضاد والطاء الظاء ، وأما الألف فلا يتأتى إدغامها لأنها لا تزال ساكنة ، وأما الهمزتان إذا التقتا فأبو عمرو يسقط الأولى إن اتفقتا ويسهل الثانية إن اختلفتا على ما سيأتي بيانه فلا إدغام فيها ، وأما الحروف التي تدغم في مقاربها فستة عشر حرفا ستأتي في الباب الآتي وأما نحو قوله (أنا نذير) ، فإن المثلين التقيا لفظا ولا إدغام محافظة على حركة النون ولهذا تعمد بألف في الوقف ومما يدغم آخر سورة الرعد وإبراهيم إذا وصلا بالنسبة عند من يرى ذلك لأبي عمرو وقد ذكر فيه خلاف والله أعلم
(119)
كَيَعْلَمُ مَا فِيهِ هُدًى وَطُبِعْ عَلَى قُلُوبِهِمُ وَالْعَفْوَ وَأْمُرْ تَمَثَّلاَ
مثلى التقاء المثلين في كلمتين ، وقد تقدم أن ذلك واقع في سبعة عشر حرفا وهي الباء والتاء والثاء والحاء المهملة والراء والسين المهملة والعين وعشرة الأحرف بعدها مثال ذلك (لذهب بسمعهم)-(الشوكة تكون)-(ثالث ثلاثة)-(لا أبرح حتى)-(فاستغفر ربه)-(وترى الناس سكارى)-(وطبع على قلوبهم)-(ومن يبتغ غير الإسلام) ، وليس في القرآن للغين غيره (تعرف في وجوههم)-(الغرق قال آمنت)-(إنك كنت بنا)-(جعل لكم)-(تعلم ما)-(أحسن نديا)-(إلا هو والملائكة)-(إنه هو) ولا تمنع صلة الهاء ، (نودي يا موسى) ، وقوله تمثلا أي تمثل المذكور وهو إدغام أول المثلين إذا التقيا في كلمتين ، ومعنى تمثلا أي تشخص وتشكل وتصور وتبين وقد تضمن ما مثل به في هذا البيت ثلاثة أنواع عليها مدار الباب ، وذلك أن الحرف المدغم إما أن يكون قبله متحرك أولا فإن كان فمثاله (يعلم ما)-(وطبع على) ، وإن لم يكن متحركا فإما أن يكون حرف مد أو لا فإن كان فمثاله (فيه هدى) ، وإن لم يكن حرف مد فهو حرف صحيح ومثاله (خذ العفو وأمر) ، وهذا القسم إطلاق الإدغام عليه فيه مسامحة بخلاف النوعين المتقدمين وسيأتي تحقيق ذلك في آخر باب إدغام المتقاربين ، ثم ذكر ما استثنى إدغامه من المثلين فقال
(120)
إِذَا لَمْ يَكُنْ تَا مُخْبِرٍ أَوْ مُخَاطَبٍ أوِ الْمُكْتَسِي تنْوِينُهُ أَوْ مُثَقَّلاَ
الضمير في يكن عائد إلى قوله ما كان أولا أي إذا لم يكن ذلك الأول من المثلين تاء مخبر أي ضميرا هو تاء دالة على المتكلم أو يكن تاء مخاطب أو يكن الذي اكتسى تنوينه أي منونا ، وأشار بذلك إلى أن نون التنوين كالحلية والزينة فلا ينبغي أن يعدم وقصر لفظ تا وأسكن ياء المكتسي ضرورة وهما منصوبان خبرين لقوله يكن ولهذا نصب أو مثقلا وعلة استثناء المنون والمثقل ظاهرة ، أما المنون فلأن التنوين حاجز بين المثلين وهو حرف صحيح معتد به في زنة الشعر ، وتنقل إليه حركة الهمزة ويكسر لالتقاء الساكنين ، وأما المثقل فيستحيل إدغامه بدون حذف أحد الحرفين من المشدد وقد حكى بعضهم إدغامه على لغة تخفيف المشدد وحكى بعضهم إدغام (من أنصار ربنا) ، ولم يعتد بالتنوين لذهابه في الوقف وحكى بعضهم إدغام (لقد كدت تركن) ، وفيه المانعان الخطاب والتشديد والعلة في استثناء تاء المخبر والمخاطب كونهما كناية عن الفاعل أو شبهه والإدغام تقريب من الحذف والفاعل لا يحذف نحو (كنت ترابا)-(وما كنت تتلو) ، وألحق بذلك التاء من أنت تكره وشبهه ليكون الباب واحدا وذكر لذلك علل أخر هي في الشرح الكبير
(121)
كَكُنْتُ تُرَاباً أَنْتَ تُكْرِهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ وَأَيْضاً تَمَّ مِيقاَتُ مُثِّلاَ
هذه أمثلة ما تقدم استثناؤه في البيت السابق على ترتيبه وقوله وأيضا أي أمثل النوع الرابع ولا أقتصر على تمثيل الأنواع الثلاثة وهو مصدر آض إذا رجع والضمير في مثلا عائد على المذكورات أي مثل جميع المستثنى أو يكون عائدا على لفظ (تم ميقات) ، أي وأيضا ثم ميقات مثل به كما مثل بالثلاثة الأول ومثله (مس سقر)-(وخر راكعا)-(وأحل لكم) ، وقد أورد على استثناء المنون الهاء الموصولة بواو أو ياء نحو (سبحانه هو الله)-(من فضله)-(هو خيرا لهم) ، وقيل يلزم استثناؤه أيضا فإن الواو والياء حرف حاجز بين المثلين ، زعم أبو حاتم وغيره أن الإدغام فيها غير جائز ، والفرق بينهما أن التنوين حرف مستقل مقصود في نفسه دال على تمكن الاسم وصرفه والصلة عبارة عن إشباع حركة الهاء فلم يكن لها استقلال ولهذا تحذف للساكن والتنوين يحرك ، وإذا اجتمع التنوين وحرف العلة حذف حرف العلة وبقي التنوين نحو قاض وغاز فهو أولى بالاعتداد فضلا عن الصلة والله أعلم
(122)
وَقَدْ أَظْهَرُوا فِي الْكَافِ يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ إِذِ النُّونُ تُخْفَى قَبْلَهَا لِتُجَمَّلاَ
أراد قوله تعالى في سورة لقمان (ومن كفر فلا يحزنك كفره) ، استثناه بعضهم للعلة التي ذكرها وبعضهم أدغمه جريا على الأصل والضمير في أظهروا يعود إلى بعض المصنفين والرواة وأهل الاختيار لا إلى جميعهم لأنهم مختلفون في ذلك على ما نقلناه في الشرح الكبير وهذه العلة ذكرها أبو طاهر بن أبي هاشم وغيره وهي أن الإخفاء تقريب من الإدغام والنون تخفى قبل الكاف على ما سيأتي تقريره في باب أحكام النون الساكنة والتنوين وإذا كان الإخفاء كالإدغام فكأن الكاف ، الأولى مدغم فيها فتكون كالحرف المشدد في (مس سقر) ونحوه وذلك ممتنع الإدغام فكذا هذا وهذه العلة تقوي استثناء تاء المخبر والمخاطب في نحو كنت وأنت لأن النون أيضا مخفاة قبل التاء فكأن الناظم أراد بهذه العبارة الاستدلال على صحة استثناء تاء المخبر والمخاطب فقال إنهم أظهروا الكاف من (يحزنك) لهذه العلة وهي موجودة في تاءى المخبر والمخاطب وإذ ظرف فيه معنى التعليل وقوله لتجملا تعليل لإخفاء النون أو للإظهار والضمير فيه للكلمة أي لتجمل الكلمة ببقائها على صورتها والله أعلم