(84)
بِنَفسِي مَنِ اسْتَهْدَىَ إلى اللهِ وَحْدَهُ وَكانَ لَهُ الْقُرْآنُ شِرْباً وَمَغْسَلاَ
أي أفدي بنفسي ومن موصولة أو موصوفة ، ومعنى استهدى طلب الهداية ، أي سلك الطريق المستقيم الموصل إلى الله تعالى والهاء في وحده لله عز وجل أو تعود على المستهدى ، فمعناه على الأول أنه مخلص لله في استهدائه لا يريد إلا الله ، وعن الثاني هو منفرد في ذلك لأنه في زمان خمول الحق وعلو الباطل والشرب النصيب ، أي إذا اقتسم الناس حظوظهم كان القرآن العزيز حظه فيكون القرآن العزيز له شربا يتروى به ومغسلا يتطهر به من الذنوب بدوام تلاوته والعمل بما فيه والتلذذ بمناجاة منزله به في ظلام الليل فمغسلا اسم مكان على التجوز أو مصدر على معنى ذا غسل
(85)
وَطَابَتْ عَلَيْهِ أَرْضُهُ فَتفَتَّقَتْ بِكُلِّ عَبِيرٍ حِينَ أَصْبَحَ مُخْضَلاَ
طابت معطوف على استهدى والهاء في عليه وأرضه للمستهدي وقيل هي في أرضه لله والمراد بالأرض المعروفة وعليه بمعنى له أي طابت له الأرض التي تحمله لما عنده من الانشراح بسبب صلاح حاله مع الله تعالى وكنى بقوله فتفتقت بكل عبير عن ثناء أهلها عليه واغتباطهم به ، والعبير الزعفران وقيل أخلاط من الطيب تجمع بالزعفران ، ومعنى تفتقت تشققت أو يكون المعنى أن الأرض زكت وكثر خيرها بسبب هذا المستهدي لقيامه بالحق وعمله بطاعة الله من قولك طابت نفسي على كذا أي وافقتها وطابت الأرض إذا أخصبت وقيل الهاء في أرضه للقرآن العزيز استعار للقرآن العزيز أرضا كأن القارئ له حالة تفكره فيه وتدبره لمعانيه كالسالك في أرض تفتقت بكل عبير ، يشير إلى كثرة الفوائد الحاصلة له بذلك علما وعملا ، ومعنى مخضلا أي مبتلا كنى بذلك عما أفاض الله تعالى عليه من نعمه بالمحافظة على حدوده
(86)
فَطُوبى لَهُ وَالشَّوْقُ يَبْعَثُ هَمُّهُ وَزَنْدُ الْأَسَى يَهْتَاجُ فِي الْقَلْبِ مُشْعِلاَ
طوبى له خبر أو دعاء والواو في والشوق للحال أي العيش الطيب له في هذه الحالة أي ما أطيب عيشه حين يبعث الشوق همه والهم هنا الإرادة أي الشوق إلى ثواب الله العظيم والنظر إلى وجهه الكريم يثير إرادته ويوقظها ويحركها مهما آنس منها فتورا أو غفلة ، ويجوز أن يكون طوبى له دعاء معترضا والشوق وما بعده معطوف على ما تقدم من الجمل أي بنفسي من استهدى وطابت عليه أرضه ومن الشوق يبعث همه والأسى الحزن والزند الذي يقدح به النار استعارة له ويهتاج أي يثور وينبعث ومشعلا حال من فاعل يهتاج أي موقدا ، وسبب هذا الحزن المشتعل التأسف على ما ضاع من العمر والخوف من التغير ، وفي طوبى بحوث أخر حسنة ذكرناها في الشرح الكبير
(87)
هُوَ المُجْتَبَى يَغْدُو عَلَى النَّاسِ كُلِّهِمْ قَرِيباً غَرِيباً مُسْتَمَالاً مُؤَمَّلاَ
المجتبى المختار وفي يغدو وجهان أحدهما أنها جملة مستأنفة ، والثاني أنها حال من ضمير المجتبى ، وفي معناها أيضا وجهان أحدهما أنها من غدا يغدو إذا مر أي أنه يمر بالناس متصفا بهذه الصفات الجليلة المذكورة وهو باين منهم أي يمر بهم مرورا غير مزاحم لهم على الدنيا ولا مكاثر لهم ، والثاني أنه من غدا بمعنى صار التي من أخوات كان وعلى الناس خبرها أي رفع الله تعالى منزلته على الناس وقريبا وما بعده أخبار لها أيضا أو أحوال والمراد بقربه تواضعه أو هو قريب من الله تعالى قرب الرحمة والطاعة وهو غريب في طريقته ومذهبه لقلة أشكاله في التمسك بالحق لأنه كالقابض على الجمر مستمالا أي يطلب منه من يعرف حاله الميل إليه والإقبال عليه ويؤمل عند نزول الشدائد كشفها بدعائه وبركته أي من جملة صفاته أن يكون مطلوبا للناس لا طالبا لهم بل ينفر منهم بجهده
(88)
يَعُدُّ جَمِيعَ النَّاسِ مَوْلى لِأَنَّهُمْ عَلَى مَا قَضَاهُ اللهُ يُجْرُونَ أَفْعَلاَ
يعد هنا بمعنى يعتقد ويحسب فلهذا عداها إلى مفعولين وأفرد مولى لأن جميع لفظ مفرد كقوله (نحن جمع منتصر) ، وفي معناه وجهان ، أحدهما أنه أراد يعد كل واحد منهم عند الله تعالى مأمورا مقهورا لا يملك لنفسه نفعا ولا ضرا فلا يرجوهم ولا يخافهم بل يكون اعتماده واتكاله على خالقه أو لا يرى لهم نفعا ولا ضرا لأن أفعالهم تجري على سابق القضاء والقدر ، والثاني أنه أراد سيدا فلا يحتقر أحدا منهم بل يتواضع لكبيرهم وصغيرهم لجواز أن يكون خيرا منه فإن النظر إلى الخاتمة ، فعلى الأول وصفه بالتوكل وقطع طمعه عن الخلق ، وعلى الثاني وصفه بالتواضع وصيانة نفسه عن الكبر والعجب ونحوهما ، ثم علل ذلك بقوله لأنهم على ما قضاه الله أي تجري أفعالهم على ما سبق به القضاء من السعادة والشقاء وأفعلا تمييز ، ووجه جمعه اختلاف أنواع أفعال الخلق فهو كقوله تعالى (بالأخسرين أعمالا) والله أعلم
(89)
يَرَى نَفْسَهُ بِالذَّمِّ أَوْلَى لِأَنَّهَا عَلَى المَجْدِ لَمْ تَلْعقْ مِنَ الصَّبْرِ وَالْأَلاَ
أي لا يشغل نفسه بعيب الناس وذمهم ويرى ذمه لنفسه أولى لأنه يعلم منها ما لا يعلمه من غيرها أو يرى نفسه مقصرة بالنسبة إلى غيره ممن سبقه من المجتهدين فيذمها لذلك وقوله على المجد أي على تحصيل الشرف يصفها بالتقصير عن مجاهدات الصديقين وعبر عن تحمله في ذلك المكاره والمشاق بتناوله ما هو مر المذاق ، والصبر بكسر الصاد وفتحها مع سكون الباء وبفتح الصاد مع كسر الباء ثلاث لغات كما في كبد وكتف ذكر ذلك الناظم فيما أملاه من الحواشي على قصيدته ، ومنهم من أنكر فتح الصاد مع سكون الباء وهو الشي المر الذي يضرب بمرارته المثل والألا بالمد ، شجر حسن المنظر مر الطعم وقيل إنه الدفلى وقيل إنه يؤكل ما دام رطبا فإذا يبس لسع ودبغ به واحده ألاة ، قال الشيخ في شرحه ، ولو قال لم تصبر على الصبر والألا لكان أحسن لأن الألا لا يلعق وهو نبت يشبه الشيح رائحة وطعما ولا يستعظم لعقه وإنما يستعظم الصبر عليه مع العدم وقوله ، من الصبر أي من مثل الصبر ، قلت هو من باب قولهم ، (متقلدا سيفا ورمحا ) و (علفتها تبنا وماء ) ، أي لم تلعق من الصبر ولم تأكل من الألا أي لم يتناول الأشياء المرة لعقا مما يلعق وأكلا مما يؤكل ولو قال لم تطعم لجمع الأمرين والله أعلم
(90)
وَقَدْ قِيلَ كُنْ كَالْكَلْبِ يُقْصِيهِ أَهْلُهُ وَمَا يَأْتَلِى فِي نُصْحِهِمْ مُتَبَذِّلاَ
أي لا يحملك ما ترى من تقصير الناس في حقك على ترك نصحهم أو لا يحملك الفقر والبؤس على ترك طاعة الرب سبحانه وتعالى وحث المخاطبين بالصفة المحمودة في أخس الحيوانات وأنجسها من المحافظة على خدمة أهله وإن قصروا في حقه ، وقد صنف أبو بكر محمد بن خلف المرزبان جزءا ذكر فيه أشياء مما وصفت الكلاب ومدحت به سماه تفضيل الكلاب على كثير ممن لبس الثياب ونظم الشيخ الشاطبي رحمه الله تعالى في هذا البيت من ذلك أثرا ، روي عن وهب بن منبه رضي الله عنه قال ، أوصى راهب رجلا فقال انصح لله حتى تكون كنصح الكلب لأهله فإنهم يجيعونه ويضربونه ويأبى إلا أن يحيط بهم نصحا ، ويقصيه أي يبعده ويأتلي أي يقصر وهو يفتعل من الائتلاء وقوله تعالى (ولا يأتل أولو الفضل منكم) ، هو أيضا يفتعل ولكن من الألية وهي الحلف ومتبذلا حال من فاعل يأتلي أو خبر كن أي كن مبتذلا كالكلب والتبذل في الأمر الاسترسال فيه لا يرفع نفسه عن القيام بشيء من جليله وحقيره
(91)
لَعَلَّ إِلهَ الْعَرْشِ يَا إِخْوَتِي يَقِى جَمَاعَتَنَا كُلَّ المَكاَرِهِ هُوّلاَ
أي لعل الله تعالى يقينا إن قبلنا هذه الوصايا وعملنا بها جميع مكاره الدنيا والآخرة وهو لا حال من المكاره وهو جمع هائل يقال هالني الأمر يهولني هولا أي أفزعني فهو هائل أي مفرغ
(92)
وَيَجْعَلُنَا مِمَّنْ يَكُونُ كِتاَبُهُ شَفِيعاً لَهُمْ إِذْ مَا نَسُوْهُ فَيمْحَلاَ
يجعلنا معطوف على يقي ومن موصولة أو موصوفة وإذ ظرف شفيعا كقوله تعالى (ولن ينفعكم اليوم إذ ظلمتم) ، فقيل هي تعليل في الموضعين كما في قوله تعالى (وإذ اعتزلتموهم وما يعبدون إلا الله فأووا) ، قلت التقدير وإذ اعتزلتموهم أفلحتم وخلصتم فأووا الآن إلى الكهف ، وأما إذ ظلمتم فنزل المسبب عن الشيء كأنه وقع زمن سببه فكأنه انتفى نفع الاشتراك في العذاب زمن ظلمهم ، وفي بيت الشاطبي رضي الله عنه كأن الشفاعة حصلت زمن عدم النسيان لما كانت مسببة عنه ، وقال أبو علي الدنيا والآخرة متصلتان وهما سواء في حكم الله وعلمه حتى كأنها واقعة وكأن اليوم ماض وقيل التقدير بعد إذ ظلمتم فهكذا يقدر بعد إذ ما نسوه وقيل العامل في إذ ويجعلنا ولا خفاء بفساد هذا ، ويقال محل به إذا سعى به إلى سلطان ونحوه وبلغ أفعاله القبيحة مثل وشى به ومكر به وانتصاب فيمحلا على جواب النفي بالفاء ، قال أبو عبيد في كتاب فضائل القرآن ثنا حجاج عن ابن جريج قال حدثت عن أنس بن مالك أنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم القرآن شافع مشفع وماحل مصدق من شفع له القرآن يوم القيامة نجا ومن محل به القرآن يوم القيامة كبه الله في النار على وجهه ، وفي كتاب الترمذي عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم عرضت علي ذنوب أمتي فلم أر ذنبا أعظم من سورة أو آية من القرآن أوتيها رجل ثم نسيها ، وروي في ذم نسيان القرآن آثار كثيرة والمراد بها ترك العمل به فإن النسيان الترك ومنه قوله تعالى (ولقد عهدنا إلى آدم من قبل فنسي) ، وقد فسر ذلك قول ابن مسعود رضي الله عنه ، القرآن شافع مشفع وماحل مصدق فمن جعله أمامه قاده إلى الجنة ومن جعله خلف ظهره ساقه إلى النار ، أخرجه مع غيره أبو بكر بن أبي شيبة في كتاب ثواب القرآن ، فالحاصل أن للقرآن يوم القيامة حالتين ، إحداهما الشفاعة لمن قرأه ولم ينس العمل به ، والثانية الشكاية لمن نسيه أي تركه متهاونا به ولم يعمل بما فيه ، ولا يبعد أن يكون من تهاون به حتى نسي تلاوته كذلك والله أعلم ، قال الشيخ وفي الدعاء ولا تجعل القرآن بنا ماحلا أي ذاكرا لما أسلفناه من المساوي في صحبته
(93)
وَبِاللهِ حَوْلِى وَاعْتِصَامِي وَقُوَّتِى وَمَاليَ إِلاَّ سِتْرُهُ مُتَجَلِّلاَ
حولي أي تحولي من أمر إلى أمر والاعتصام الامتناع من كل ما يشين أي ذلك كله بيد الله لا يحصل إلا بمعونته ومشيئته ، وفي الحديث الصحيح لا حول ولا قوة إلا بالله كنز من كنوز الجنة ، قال ابن مسعود في تفسيرها لا حول عن معصية الله إلا بعصمة الله ولا قوة على طاعة الله إلا بعون الله ، قال الخطابي هذا أحسن ما جاء فيه ومتجملا حال من الياء في لي أي ومالي ما أعتمد عليه إلا ما قد جللني به من ستره في الدنيا فأنا أرجو مثل ذلك في الآخرة أي ومالي إلا ستره في حال كوني متجللا به أي متغطيا به وقيل هو حال من الستر وفيه نظر
(94)
فَيَا رَبِّ أَنْتَ اللهُ حَسْبي وَعُدَّنِي عَلَيْكَ اعْتِمَادِي ضَارِعاً مُتَوَكِّلاَ
حسبي أي كافي والعدة ما يعد لدفع الحوادث والضارع الذليل والمتوكل المظهر للعجز معتمدا على من يتوكل عليه وهما حالان من الياء في اعتمادي وهذا أخر شرح الخطبة
انتهت خطبة الكتاب والآن إلى الإستعاذة