(46)
وَمِنْ بَعْدِ ذِكْرِى الْحَرْفَ أُسْمِى رِجَالَهُ مَتَى تَنْقَضِي آتِيكَ بِالْوَاوِ فَيْصَلاَ
الحرف مفعول ذكرى المضاف إلى ياء المتكلم والمراد بالحرف ما وقع الاختلاف فيه بين القراء من الكلمات وأسمى وأسمى لغتان بمعنى واحد ويتعديان إلى مفعول واحد لأنه واحد لأنه بمعنى ذكرى الاسم ، والهاء في رجاله تعود إلى الحرف والمراد برجاله قراؤه أي أذكرهم برموزهم التي أشرت إليها لا بصريح أسمائهم فإن ذلك يتقدم على الحرف ويتأخر كما سيأتي ، بين بهذا البيت كيفية استعماله الرمز بحروف أبجد فذكر أنه يذكر حرف القراءة أولا ثم يرمز له سواء كان المختلف فيه كلمة أو أكثر فالكلمة نحو وتقبل الأولى أنثوا دون حاجز والكلمتان نحو وكسر بيوت والبيوت يضم عن حماجلة والثلاث نحو وقيل وغيض ثم جيء يشمها البيت والربع نحو وسكن يؤده مع نوله ونصله ونؤته منها البيت وقد تكون قاعدة كلية يدخل تحتها كلم متعددة نحو وضمك أولى الساكنين البيت والأغلب أن الرمز المذكور لا يأتي إلا بعد كمال تقييد القراءة إن احتاجت إلى تقييد كالأمثلة التي ذكرناها وقد وقع قليلاً رمز قبل تمام التقييد كقوله والعين في الكل ثقلا كما دار واقصر مع مضعفة فقوله كما دار رمز متوسط بين كلمتي التقييد وهما ثقلا واقصر ومثله ومع مد كائن كسر همزته دلا ولا ياء مكسورا وأما قوله في سورة غافر أو أن زد الهمز ثملا وسكن لهم فإن قوله لهم قام مقام تكرار الرمز وقد يرمز قبل جملة التقييد كقوله وإثم كبير شاع بالثا مثلثا ومثله مع تسمية القارئ قوله وفي فأزل اللام خفف لحمزة وزد ألفا من قبله فتكملا والضمير في تنقضي للرجال ، ويجوز أن يعود على المسألة برمتها من ذكر الحرف وقرائه لدلالة سياق الكلام على ذلك ، يريد أنه إذا انقضى ذكر الحرف ورمز من قرأه أتى بكلمة أولها واو تؤذن بانقضاء تلك المسألة واستئناف أخرى لأن الواو لم يجعلها رمز القارئ بخلاف سائر الحروف ولو لم يفعل ذلك لاختلطت المسائل وظن ما ليس برمز رمزا لا سيما إذا أتى بكلام بين المسألتين للحاجة إليه في تتميم وزن البيت كقوله وجها على الأصل أقبلا وجها ليس إلا مبجلا حق وذو جلا فإن ما بعد الواو ليس رمزا في كل ذلك وقد يأتي بكلمة أولها واو في أثناء تقييد المسألة لضرورة القافية فلا تكون الواو فيها فصلا كقوله من رجز أليم معا ولا على رفع خفض الميم دل عليه وكقوله والياسين بالكسر وصلا مع القصر مع إسكان كسر دنا غنى فالواو في ولا ووصلا في هذين الموضعين ليسا بفصل كما أن ألفاظ التقييد لا تكون أوائلها إلا رمزا وإنما الرمز ما يأتي بعد كمال التقييد غالبا كذلك الواو الفاصلة هي ما يأتي بعد كمال المسألة من التقييد والرمز والله أعلم ، وإثبات الياء في تنقضي وآتيك وهما فعلا شرط وجزاء على لغة من قال ، (ألم يأتيك والأنباء تنمي ) وحقها حذف الياء منها للجزم ولم يستقم له حذف الياء من تنقضي أما من آتيك فكان حذفها جائزا له على ارتكاب زحاف جائز والناظم لم يفعله لنفور الطبع السليم منه وفيصلا حال وهو من الصفات التي جاءت على وزن فيعل كضيغم وبيئس وفيه معنى المبالغة والله أعلم
(47)
سِوَى أَحْرُفٍ لاَ رِيبَةٌ فِي اتِّصَالِهَا وَبالَّلفْظِ أَسْتَغْنِي عَنِ الْقَيْدِ إِنْ جَلاَ
نبه بهذا البيت على أنه إنما جعل الواو فاصلة لترتفع الريبة واللبس من اختلاط الحروف وإنما خص الواو بالفصل لتأتيها له في النظم وتيسرها عليه من حيث هي في الأغلب عاطفة والقراءات تراجم ومسائل يعطف بعضها على بعض وربما فصل بغير العاطفة كقوله دار وجها شاع وصلاه في عمد وعوا وهو قليل وليس كل كلمة أولها واو يكون الواو فيها فصلا فإن ذلك قد يقع في كلمات القرآن وفي ألفاظ التقييد كقوله وراؤه بكسر بعد قوله وصحبة يصرف فتح ضم ومنه قوله وبالضم واقصروا كسر التاء قاتلوا وقد تقدم أنها تقع في أثناء كلمات التقييد وإن لم تكن تلك الكلمة تقييدا بل احتيج إليها لتتميم القافية كقوله وفك ارفعن ولا فإن قوله ولا وقع حشوا لأجل القافية وقوله بعد ذلك وبعد اخفضن واكسر ومد الواو في الكلمات الثلاث داخلة على ما هو تقييد لا فصل في واحدة منها إلى قوله ومؤصدة فإنما الواو الفاصلة هي الآتية بعد كمال الرمز ، ثم إن الكلمة التي أولها واو للفصل تارة ليس المراد منها إلا ذلك نحو وضم حليهم بكسر شفا واف فكلمة واف لم يأت بها إلا للفصل وإن تضمنت معنى صحيحا فيما يرجع إلى الثناء على القراءة وتارة تأتي الكلمة ويكون ما بعد الواو مقصودا لغير الفصل إما هو من الحروف المختلف فيها نحو وموصدة فاهمز وحمالة المرفوع وإما اسم لقارئ نحو وحمزة أسرى وورش لئلا وبصر وأتبعنا أو تقييد للحرف المختلف فيه نحو وخاطب حرفا تحسبن وبالضم صر أشاع وميم ابن أم اكسر وذكر لم يكن شاع وقد يكون ما بعد الواو رمزا وهو قليل وقد تقدم الكلام فيه نحو وعلى الحرمي ثم ذكر في هذا البيت أنه قد لا يأتي بالواو الفاصلة وذلك في أحرف من القراءات إذا اتصلت لم يلبس أمرها ولا يرتاب الناظر فيها لأنها من كلم القرآن وذلك كقوله وينبت نون صح يدعون عاصم ويدعون خاطب إذ لوى ورابرق افتح آمنا البيتين ففي كل بيت منهما ثلاثة أحرف ولا واو بينها وقد يقع الاتصال من تقييد قراءة ورمز أخرى كقوله يظلمون غيب شهددنا ثم قال إدغام بيت في حلا وقوله واكسر الضم اثقلا نعم عم في الشورى ، فالحاصل أنه يلتزم الواو في مواضع الريبة وفيما عداها قد يأتي بالواو طردا للباب وقد لا يأتي بها للاستغناء عنها وأكثر المواضع التي أتى فيها بالواو لا لبس فيها كقوله وعند سراط والسراط ورضوان اضمم زكا وقواريرا وقد ترك الواو سهوا في موضع واحد ملبس في سورة القصص وقل قال موسى واحذف الواو دخللا نما نفر بالضم ثم ذكر حكما آخر فيما يتعلق بتقييد الحرف المختلف فيه فقال وباللفظ استغنى عن القيد ولم يكن هنا موضع ذكره ولو أخره إلى ما بعد انقضاء الرموز لكان أولى وذلك عند قوله وما كان ذا ضد إلى قوله وفي الرفع والتذكير والغيب فهاتيك الأبيات كلها فيما يتعلق بتقييد القراءات وهذه الأبيات من قوله جعلت أبا جاد إلى قوله وما كان ذا ضد كلها في الرمز وما يتعلق به ويتفرع عنه فاعترض بهذا الحكم في أثناء ذلك فذكر أنه قد لا يحتاج إلى تقييد الحرف بهيئة قراءته إذا كان التلفظ به كاشفا عن ذلك القيد ولهذا قال إن جلا أي إن كشف اللفظ عن المقصود وبينه يقال جلوت الأمر إذا كشفته وهذا قد أتى في القصيدة على ثلاثة أقسام إما أن يلفظ بالقراءتين معا كقوله وحمزة أسرى في أسارى وفي طائر طيرا سكارى معا سكرى وعالم قل علام ، وإما أن يلفظ بإحداهما ويقيد الأخرى كقوله وبالتاء آتينا ، والثالث أن يلفظ بإحداهما ولا يقيد الأخرى كقوله و(مالك يوم الدين) ، كأنه قال بالمد ففهم من ذلك القراءة الأخرى من جهة الضد ، وقد يلفظ بالقراءتين معا ويذكر بعد بعض قيود إحداهما كقوله تمارونه تمرونه وافتحوا شذا وطأ وطاء فاكسروه وكل موضع لفظ بحرف مختلف فيه ولم يستغن باللفظ به عن القيد ثم قيده بما فهم منه الخلاف باعتبار الأضداد على ما سيأتي ذكرها فإن لم يكن أن يلفظ بذلك اللفظ إلا على إحدى القراءتين تعين ، وهو في القصيدة على نوعين ، أحدهما أن يكون القيد لما لفظ به كقوله وما يخدعون الفتح من قبل ساكن وبعد ذكا وخفف كوف يكذبون وعدنا جميعا دون ما ألف وكفلها الكوفي ثقيلا البيت وحامية بالمد صحبته كلا وفي حاذرون المد ، والثاني أن يكون القيد لما لم يلفظ به وهذا أحسن لأخذ كل من القراءتين حظا إما لفظا وإما تقييدا كقوله وفي تكملوا قل شعبة الميم ثقلا وقصر قياما عم مع القصر شدد ياء قاسية شفا ووحد للمكي آيات الولا فإن أمكن أن يلفظ بذلك اللفظ على كل واحدة من القراءتين فالأولى أن يلفظ بما لم يقيده كقوله عليهم إليهم حمزة بكسر الهاء وصحبة يصرف بضم الياء وذكر لم تكن بالتاء الدالة على التأنيث وقد جاء في سورة طه موضع استغنى فيه باللفظ عن القيد ولم يحصل الاستغناء به لأنه لم يجل القراءة الأخرى ولم يكشفها وهو قوله وأنجيتكم واعدتكم ما رزقتكم شفا وسيأتي ما يمكن الاعتذار به في موضعه إن شاء الله تعالى
(48)
وَرُبَّ مَكاَنٍ كَرَّرَ الْحَرْفَ قَبْلَهَا لِمَا عَارِضٍ وَالْأَمْرُ لَيْسَ مُهَوِّلاَ
الحرف مفعول كرر وفاعله ضمير راجع إلى مكان على طريقة المجاز جعل المكان مكرر لما كان التكرار واقعا فيه كقولهم ليل نائم أو يرجع إلى الناظم على طريقة الالتفات من استغنى إلى كرر كقوله تعالى (لنريه من آياتنا إنه هو) ، أي كرر فيه الناظم الحرف قبلها أي قبل الواو الفاصلة ومراده بالحرف هنا حرف الرمز الدال على القارئ لا الكلمة المختلف فيها المعبر عنها بقوله ومن بعد ذكرى الحرف ولو قال ورب مكان كرر الرمز لكان أظهر لغرضه وأبين ورب حرف تقليل وعامله محذوف مقدر بعده أي وجد أو عثر عليه أشار إلى أن ذلك يوجد قليلا وهو تكرار الرمز تأكيدا وزيادة بيان ، وهو في ذلك على نوعين ، أحدهما أن يكون الرمز لمفرد فيكرره بعينه كقوله اعتاد فضلا ، وحلا حلاء ، وعلا علا ، والثاني أن يكون الرمز لجماعة لم يرمز لواحد من تلك الجماعة كقوله سما العلا ، ذا أسوة تلا ، وقد يتقدم المفرد كقوله إذ سما كيف عولا ، وقوله قبلها يعني قبل الواو الفاصلة المنطوق بها أو قبل موضعها وإن لم توجد فإن حلا حلا وعلا علا ليس بعدهما واو فاصلة ، وقوله لما عارض تعليل للتكرير وما نكرة موصوفة أي لأمر عارض أو زائدة كزيادتها في قوله تعالى (فبما رحمة من الله لنت لهم) ، أي لأجل عارض اقتضى ذلك من تحسين لفظ أو تتميم قافية ثم سهل هذا الأمر على الطالب وهونه بقوله والأمر ليس مهولا أي ليس مفزعا أي لا يجر لبسا ولا يؤدي إلى إشكال ، واعلم أنه كما يكرر الرمز لعارض فقد تكرر الواو الفاصلة أيضا لذلك كقوله قاصداً ولا ومع جزمه ، ولم يخشوا هناك مضللا وأن يقبلا التذكير ، ولم ينبه على ذلك وهو واضح والله أعلم