الفصل الأول
البحار العجوز في فندق بنبو
أتذكر بوضوح ذاك البحار العجوز الأسمر وهو يقترب من باب الفندق، يداه خشنتان ومشققتان
وأثر جرح سيف على أحد خديه. أتذكر أنه بعد أن أطال النظر حول الخليج
وغنى تلك الأغنية البحرية القديمة :
خمسة عشر رجلا على صندوق الرجل الميت
يو هو هو، وزجاجة من الروم !
طلب بجلافة كأسا من الروم وبدأ يشرب ببطء. وأخيرا علق قائلا:
" إنه خليج لطيف، سأبقى هنا بعض الوقت" ثم أردف مخاطبا أبي:
" يمكنك أن تناديني بالقبطان ". عندها ألقى بثلاث أو أربع قطع ذهبية ثم قال
وعلائم الشراسة بادية عليه: " بإمكانك أن تطالبني عندما تنفذ تلك النقود " ؟
كان في العادة رجلا صامتا جدا، يتمشى طوال اليوم حول الخليج ومعه منظار نحاسي
ويقضي طيلة المساء جالسا في زاوية قرب النار يحتسي روما مسكرا للغاية.
أقام أسبوعا بعد أسبوع ثم شهرا بعد شهر إلى أن استهلك النقود التي دفعها مقدما
بمرور الزمن. ولم تكن لدى أبي الشجاعة قط ليطلب منه المزيد .
وفي وقت متأخر من عصر أحد الأيام جاء الطبيب ليفسي ليعود أبي، ثم دخل غرفة الجلوس
ليدخن غليونه. أتذكر بوضوح الفرق الضخم بين الطبيب بشعره الناعم الأبيض كالثلج
وعينيه السوداوين البراقتين وتصرفاته اللطيفة وبين قرصاننا المتسخ المجهد ذي العينين
الحمراوين الذي جرع للتو كمية كبيرة من الروم. فجأة بدأ الكابتن أغنيته المعهودة:
خمسة عشر رجلا على صندوق الرجل الميت
يو هو هو ، وزجاجة من الروم !
اشرب ودع الشيطان يتدبر الباقي
يو هو هو ، وزجاجة من الروم !
لم تثر الأغنية هذه المرة انتباها كبيرا من قبل أحد في الفندق، لقد كانت جديدة
في تلك الأمسية بالنسبة لدكتور ليفسي فقط، الذي رفع بصره للحظة وهو يشتعل غضبا
قبل أن يتابع حديثه مع تايلور البستاني العجوز. حدًق الكابتن فيه لفترة ثم ضرب على الطاولة
طالبا الصمت. ثم تابع التحديق بنظرات قاسية حتًى انفجر أخيرا. وهو يسب ويشتم :
_ أنت هناك ، توقًف عن الكلام.
تساءل الدكتور _ هل توجه الكلام لي يا سيد ؟
أجابه وهو يقذف شتيمة أخرى_ نعم لك .
في هذه الحالة عندي شيء واحد أقوله لك أيها السيد : إذا واظبت على شرب الروم
سيتخلًص العالم قريبا من شخص قذر وقبيح جدا .
كان انفعال " الكابتن " مرعبا. قفز من مكانه شاهرا سكينة كبيرة وبدا عليه كما لو أنه
على وشك قتل الدكتور. أما ليفسي فلم يتحرك من مكانه، تكلم معه كما تكلم من قبل
بلا مبالاة وبهدوء وثبات شديدين .
_ أبعد هذه السكينة أو أعدك بالشنق .
أخفى الكابتن سلاحه وجلس ثانية، وكانت تسمع حشرجات ضعيفة خارجة
من بلعومه كما لو أنه كلب مضروب .
كان ذلك الشتاء قارساً، وكان من الواضح أن أبي المسكين لن يرى الربيع.
كانت صحته تتداعى يوما بعد يوم. وكان علينا أنا وأمي أن نقوم بجميع أعمال الفندق.
وفي صبيحة أحد أيام كانون الثاني سمعت خبطة قوية في غرفة الجلوس. هرعت فإذا بي
أرى الكابتن ممددا على أرض الغرفة . سرعان ما نزلت أمي إلى الطابق الأرضي لمساعدتي.
رفعنا رأسه ، كان يتنفس بصعوبة بالغة، عيناه مغمضتان ولون وجهه مخيف.
وكم كنا سعداء حينما فتح الباب ودخل الدكتور ليفسي الذي جاء للاطمئنان على أبي.
انبرى قائلا:
_ إنه مريض، حالته خطيرة، تماما كما حذرته إذا استمر في شرب الروم.
والآن أسرعي يا سيدة هوكنز إلى زوجك في الطابق الأعلى .
أما أنا فعليً أن أبذل قصارى جهدي لإنقاذ حياة هذا الشخص، حياته التي لا تستحق شيئاً .
كان على الطبيب أن يقوم بمجهود كبير قبل أن يفتح الكابتن عينيه. وبعناء شديد
حملناه إلى الطابق الأعلى ومددناه على سريره.
عندئذ حذره الطبيب قائلا:
_ الروم بالنسبة لك يعني الموت، لا تنسى ذلك.
ثم غادر ليرى أبي وأنا بصحبته وقد عقب وهو يغلق الباب:
_ بسيطة، سيبقى لمدة أسبوع في سريره ، وهذا أفضل له ولكم ،
إلاَ أن النوبة التالية ستقضي عليه.